تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


لك يا حلب

معاً على الطريق
الإثنين 6-8-2012
أنيسة عبود

لك يا حلب.. أول الشوق وأول انبلاج الضوء والتذكر الجميل.. لك نبض أول الاندهاش حيث زرتك وأنا صغيرة.. لم أكن أملك حديقة لأقطف لك الورد، وما كنت أحمل غير قلبي أرميه على عتباتك العالية..

أنت أول المدن التي تتخزن كالعطر في قوارير الذاكرة..وأول المدن التي تركت طفولتي تتسكع في شوارع مجدها.. ما كنت قد قرأت بعد قلعتك الشامخة التي يسكن التاريخ في حجارتها وما كنت قد سمعت بحمائم أبي فراس التي تنوح على بابها.. وذلك الحمداني والروم خلفه والسيف أمامه ما كنت قد عرفته بعد وما كنت قد صادفته أبداً في باب القلعة ولا في الكلاسة ولا في العزيزية.. ولكن عندما رأيته يتمشى في شوارع مرصوفة بالحجارة السوداء اللامعة المصقولة بخطوات الأيام فزعت منه ورحت أركض عبر زقاقات تغوص في زمن بعيد.. لكن أمي أمسكت بي وقالت: لا تجزعي هذا هو الحمداني سيف الدولة.. فنظرت خاشعة إلى جبهته العالية..شعرت أنه يشبه أبي أو أخي الكبير فغمرني الهدوء. لكن حين اقتربت منه غاب كشعاع ضوء وغابت أمي فشعرت بالوحشة وأنا أمام باب عتيق مرصع بالسنوات الغائرة..‏

بهرتني مصابيح حلب وأنا القادمة من حقول الحنطة. بهرتني بواباتها العالية وشموخ ساحاتها التي تترجل فيها القصائد وتسير في منعطفاتها حكايات قومها الطيبين الرائعين..‏

ما كنت قد سمعت بالمتنبي، ولم يحدثني أحد عن أبي فراس الحمداني ولا عن الروم عجاف الذاكرة وعجاف الفكر.. لكني رأيت باقات الكلام مربوطة بالورد وباقات القصائد تتدلى من الأسطحة القديمة.. ورأيت نساء جميلات مهفهفات يتدرجن في حديقة السبيل.. وعندما يهبط الليل لا تنام حلب كما تنام مدينتي الصغيرة.. بل تسهر أمام واجهات مزخرفة مليئة بالضوء والتحف والأشياء الجميلة.. أسواق وزحمة، وألعاب كثيرة..حلوى وسكاكر وثياب ملونة.. توقفت قليلاً ألمس الواجهات الفاتنة لكن أمي شدتني من يدي وهي تقول: عيب أن نلمس الواجهة..أنا كنت ألمس الحلوى والسكاكر اللذيذة، لكن أمي كانت تلمس جرح الكبرياء وتضبط خيالات طفلة تريد أن تطير إلى آفاق لا يمكن لأمي الطيبة أن تلحق بها في مدينة فاتنة غاوية ومغوية بجمالها وتاريخها وعراقتها.. مشيت إلى جانب أمي ومشى التاريخ أمامي فصرنا أصدقاء وصرت أبحث عنه كلما غاب إلى أن استضفته في كتابتي بعد أن كبرت. وصرت قادرة على محاورته.‏

هذه هي حلب.. تسكن نبض التذكر وصورة المدينة الأولى وكأنها المدينة الفاضلة التي طالما حلمنا بها.. دونتها في إحدى رواياتي وكانت حلب تمر بالمحنة ذاتها التي تمر عليها الآن لكن حلب البهية.. حلب الأدب والأدباء.. حلب الموسيقا الأصيلة والأصدقاء الرائعين.. حلب التاريخ والحجارة القديمة المصبوغة بالمسك لا يجوز أن تبكي عيونها الجميلة.. ولا يجوز أن يحزن أطفالها ولا أن تهطل دماء أهلها.. حلب التي أحبها.. غير مسموح أن تنوح.. وغير مسموح أن يلوثها التآمر ويخربها الغزاة الجدد.. حلب المنورة المتنورة لن يسمح أهلها الرائعون الوطنيون أن تكون بيتاً مظلماً ظالماً ولن تقبل في جنباتها أبداً ذلك (العصملي) اللعين الذي يسعى لإطفاء نورها.. حلب هذه التي أحببتها..‏

حلب سهر الليالي البهية والموسيقا الراقية ومهرجانات الأدب والمصانع العريقة والتاريخ الذي يرفع سيفه عالياً في وجه كل الخونة.. حلب عصية أبية لا تذل ولا تهن.. قد تتألم قليلاً وقد تذرف بعض الدمع العزيز، ولكن حلب التي أحبها والتي تسكن قلبي هي حلب الأبية الصابرة الصامدة. وعلى الرغم من الجراح.. الحلبيون لا يقبلون أن يكونوا نازحين ولا لاجئين.. ولن يغادروا حلب.. هكذا أخبرني الباحث الدكتور عبد الهادي نصري.. وهكذا هم أهل حلب.. وطنيون أحرار كرام.. وهكذا هم السوريون أحبتي وأهلي.. لك يا حلب قلبي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية