|
ملحق ثقافي وجرى تصويت عام على سؤال ما إذا كان ينبغي السماح للحضارة الغربية أن تستمر في الوجود، أظن أن جميع الأنواع، وربما باستثناء الصراصير والجرذان، كانت ستصوت ضدنا، ولكانت نتيجة هكذا استفتاء 100% من الأصوات «ضد»: الحضارة الغربية ليست جيدة بالنسبة إلى كوكب الأرض، يجب أن تهلك».
لماذا يسير الإنسان إلى حتفه؟ ولماذا يصر على تدمير الأرض ونفسه، مع أنه متأكد من نهايته وحتمية موته؟ يبرز ليف غوميليوف، من بين أشهر الأسماء الفكرية في تاريخ دراسة التاريخ الاجتماعي والنفسي والسياسي لدول العالم. فهو ينظر إلى العمليات التي تمت على هذا الكوكب بعين ثاقبة وفكر متين. في كتابه «في دوامة التاريخ» يقرأ غوميليوف الأحداث التاريخية ويدرس نشوء الحضارات وانهيارها. ينظر أبعد مما يمكن للباحث والمفكر العادي أن يصل نظره وفكره. إنه يتخطى الرؤى العامة وقراءة التاريخ بشكل مدرسي. وهو يرى أكثر من اللازم – إذا صح التعبير – ويحلل أكثر من اللازم، ويقنع أكثر من اللازم أيضاً. يقول غوميليوف: «إن هذه الحروب الكبيرة تجري، ليس لأن أحداً ما بحاجة إليها – فأقل من يحتاجها هم المشاركون فيها – بل لأنه يوجد ذلك الشيء الذي أسميه «الباسيونارية» وهي كلمة لاتينية تعني «الولع»». ثم يشرح غوميليوف «الباسيونارية» بأنها السعي للعمل من دون أي هدف واضح أو مع هدف وهمي. ويقول: «أدركت أن ليس الإسكندر المقدوني فقط كان باسيونارياً، كذلك سعى نابليون ليس إلى المكاسب المادية، بل إلى السلطة اللامحدودة على العالم الذي رآه في أوروبا». ويخلص إلى نتيجة مفادها أنه إذا لم يكن الباسيوناري موجوداً، فلن تجري العمليات، وعندها يعيش الناس بهدوء وسكينة لا يمسون أحداً». لا يهتم الباسيوناريون إن كانت أعمالهم تجلب النفع أو الضرر، فهم يسعون للقيام بعمل أكثر مما يحتاجه الحفاظ على حياتهم وحياة ذريتهم. لتفسير هذه الظاهرة، ينطلق غوميليوف نحو التأثيرات الأرضية والكونية التي تجعل هؤلاء الناس على هذه الحال. يذكر النشاط الشمسي ويقلل من تأثيره، ويتحدث عن خامات اليورانيوم ولا يعطيها المركزية. وأخيراً يوسع رؤيته حتى إنه يبدأ بالفراغ الذي توجد فيه الأرض، والتأثيرات القادمة إليها من الفضاء عبر الذرات الفضائية، التي تخترق طبقة الإيونوسفير وإحدى عشرة طبقة أخرى تحيط بالأرض وتصل إلى سطحها وتؤثر في البيوسفيرا. وهنا تحدث الطفرات حسب تأثير طاقة المادة الحية للبيوسفيرا في قطاعات محددة من سطح الأرض. لكن ما هي البيوسفيرا؟ إنها الكتلة الحيوية لكل الكائنات الحية بما فيها الفيروسات والأجسام الدقيقة، بل حتى نتاجات نشاطهم الحيوي: التربة، الأصناف الراسبة، الأوكسيجين الحر في الهواء، كل ذلك من عمل البيوسفيرا؛ إنها جثث الحيوانات والنباتات التي هلكت قبلنا بوقت طويل، ولكنها أمنت لنا إمكانية الوجود. إننا نستمد الطاقة التي تغذينا من عدة مصادر، فمن جهة نستمدها من جثث أسلافنا الحيوانات والنباتات والأجسام الدقيقة، فنحن نأكلها ونسير فوقها ونتنفسها إذ إنها أهدتنا الأوكسيجين. وهنا طاقة الشمس التي تتراكم عن طريق التركيب الضوئي في النباتات التي تأكلها الحيوانات، وهذه الطاقة تنتقل إلى لحم ودم كل الكائنات الحية. إضافة إلى ذلك هناك طاقة انقسام العناصر المشعة داخل الأرض. والنوع الأخير من الطاقة هو الطاقة التي نحصل عليها بكميات ضئيلة من الفضاء الكوني، إنها حزم من الطاقة القادمة من أعماق المجرة تضرب أرضنا وتمارس تأثيرها الطاقي في البيوسفيرا بسرعة البرق. يسأل غوميليوف: «ما الذي كان الإسكندر المقدوني بحاجة إليه عندما غزا الهند وحاول فتحها؟». يجيب المؤرخ أريانس الذي وصف حملات الإسكندر، بأن الإسكندر كان يريد المجد لنفسه ولشعبه. ويتابع غوميليوف: ولكن ما هو المجد؟ فالمجد لا يؤمّن شيئاً لا الحياة ولا الثروة ولا الذرية. لقد مات الإسكندر في سن الثالثة والثلاثين بسبب الإنهاك، مخلفاً ذرية محتم عليها الهلاك، لأن أولاده قتلوا على يد قواده الذي تقاسموا ما تركه من ميراث، كما قتلوا نساءه التعيسات. يخلص غوميليوف إلى نتيجة: «هذا يعني أن الإسكندر سعى نحو الوهم، لربما، فهل هذا حدث استثنائي؟». يطرح غوميليوف مثالاً آخر، وهو نيوتن؛ «لقد أمضى نيوتن حياته في حل مسألتين علميتين رئيسيتين: إنشاء الميكانيك وشرح سفر القيامة، هذا الذي كان يهمه فقط، فلم يتزوج ولم يجمع ثروة ولم يهتم بأي شيء ما عدا أفكاره. كان يعيش في بيته مع مدبرة منزل ويعمل. وعندما جعله ملك إنكلترا كارل الثاني عضواً في مجلس اللوردات، فإنه مثل أي إنسان نزيه ذهب إلى البرلمان ومكث حتى نهاية الجلسة، وطوال هذا الوقت لم يقل سوى كلمتين «أغلقوا النافذة»، أما الأمور الباقية الأخرى فلم تكن تهمه.. هذا مثال شخص لم يسع نحو الصدارة، ولكن مع ذلك كان يخوض نقاشات ويجادل ويبرهن أنه على حق، بمعنى أنه كانت عنده كل الصفات الإنسانية، ولكن هدف حياته كان التعطش للمعرفة التي يمكن أن نصفها بأنها أحد أشكال الجشع». يملك الباسيوناري خطاً عكسياً لغريزة البقاء، حيث أنه يرغم الناس على التضحية بأنفسهم وذريتهم من أجل مطامع وهمية: الطموح، الغرور، الجشع، الغيرة، وغير ذلك من أشكال الباسيونارية، وبالتالي يمكننا أن ننظر إلى الباسيونارية باعتبارها مضاداً للغريزة، أو أنها غريزة ذات علامة معاكسة. رمى نابليون الناس إلى الموت من أجل وهم، من أجل مجد فرنسا، كما قال، أما في حقيقة الأمر فمن أجل تعطشه للسلطة. غزت فرنسا مناطق بعيدة عنها عشرات آلاف الكيلومترات، وسرقت قوت أبنائها، وقتلت الكثير من شعوبها، وأشعلت حرباً مع بريطانيا استمرت مائة عام. وبدا أن تفاقم سرطان الوهم قد فتك بأسياد الأوروبيين، إلى درجة أنهم لم يعودوا يدركون معنى الحرب ولماذا تقام. فيما بعد تحالفت أوروبا في الحروب الصليبية، وكانت الخسائر فادحة للوصول إلى القدس، ورغم ذلك استمرت الحملات. ازداد الباسيوناري شراسة، بعد انتقال الأوروبيين إلى أمريكا، فقد أزالوا الغابات الغنية من أرض الهنود الحمر، وزرعوا القطن مكانها، وهذه الزراعة تطلبت عمالاً؛ فما كان منهم إلا أن جلبوهم من فقراء إنجلترا؛ حيث كان الفقر يعتبر جريمة، ولم يطل الأمر إلا وقد امتدت حمى الباسيونارية أكثر، وفكر الإنجليز باستبدال العبيد البيض بعبيد سود، وهكذا فقد غزا الأمريكان القارة الأفريقية وجاؤوا بالزنوج مكبلين بالسلاسل، وأجبروهم على العمل حتى كانت تخور قواهم. أما بالنسبة إلى أهل البلد الأصليين/ الهنود، فقد قتل الأمريكان والإسبان أعداداً كبيرة منهم، وسرقوا معابدهم وسكبوا تحفهم الفنية المصنوعة من الذهب والفضة في سبائك من أجل نقلها إلى إسبانيا. لقد تمت إبادة الهنود قبيلة تلو الأخرى، وتفاقمت موجة الباسيونارية واجتاحت كل أمريكا، وأصبح قتل وملاحقة الهندي إلى أعلى الجبال، نوعاً من الحمى الباسيونارية المدمرة. ولم تسلم الطبيعة أيضاً فقد تم تدميرها بشكل غير صائب، واستغنى المحتلون عن أصناف كثيرة من الحيوانات الهندية، بحجة أنها لا نفع منها. الباسيونارية مخالفة للغريزة وللطبيعة الإنسانية، لأنها تهدر الروح وتشظي الأخلاق البشرية، وتقتل بلا سبب، وتفني ببساطة. الآن، في هذا العالم الذي يقترب فيه الغرب من قمة هرم التعطش للسلطة والهيمنة والجشع، يمكن فهم أن الباسيونارية الحالية ليست أقل جشعاً ودموية من تلك التي مرت منذ قرون، وتأسست على تصفية الأعراق، ومحو الإثنوسات الأخرى. العالم الغربي الآن تسيطر عليه ثقافة عدوانية وتنافسية، وهذا رأي أجمع عليه كثير من المفكرين الغربيين والعالميين. وهذا العالم استطاع أن يؤثر في الدول النامية، عبر تصدير التقنيات والبضائع الاستهلاكية، التي تؤدي بدورها إلى قمع وتدمير الحياة الطقسية الأصيلة والروحية لهذه البلدان، واستبدالها بالحياة المادية. لقد تسلمت الحضارة الأوروبية زمام المبادرة في تصفية من تريد وتدمير من لا يروق لها. ويمكن أن نستعير عبارة ودرو ويلسون الشهيرة: «هل نستطيع أن نجعل العالم آمناً من أجل الطيبة وليس من أجل الديمقراطية فقط؟». فقناع الديمقراطية، لم يعد يكفي لستر عيوب الحضارة الغربية. ليس مستبعداً – حسب العالم النظري بيتر راسيل – أن يؤدي نشاط البشر إلى هلاك أنواع كبيرة أخرى من الكائنات. ووفق هذا السيناريو فإن تلك الأنواع التي ستؤدي نشاطاتنا إلى اختفائها ستكون على الأرجح هي نحن أنفسنا. الاحتمال الأسوأ هو أننا سندمر طبقة الأوزون، عندئذ ستصبح الحياة على اليابسة غير محتملة. ومن يبقى متفائلاً، يمكنني أن أجيبه على الشكل التالي: إذا حذفنا الأسلحة البيولوجية والجرثومية والكيميائية والتقليدية عامة والقنبلة الهيدروجينية، فستبقى لدينا الأسلحة النووية التي تتباهى بها الدول المتقدمة وغير المتقدمة، وهذه لوحدها يمكنها إفناء الأرض 52 مرة، مع العلم أن أرضنا المسكينة ليست بحاجة سوى لمرة واحدة كي تفنى وتصبح كتلة ملتهبة. الكتاب: في دوامة التاريخ الكاتب: ليف غوميليوف ترجمة: د. نواف القنطار الناشر: دار علاء الدين، دمشق |
|