|
ملحق ثقافي يدفعنا إلى البحث عن أدوات جديدة للخطاب الثقافي تكون قادرة على تجسيد حالة الإنسان في العصر الحديث بعد أن فقدت الأداة اللغوية «الألفاظ» قدرتها على خلق حوار إنساني يجنب الإنسان فقده إنسانيته. تدفع معطيات الواقع المعاش الإنسان إلى تجاوز نظرية الدال والمدلول، لأن اللفظة لم تعد وحدها الوجه الآخر للمعنى، وإنما تجلت الصورة لتجسيد المدلول أحياناً دون حاجة إلى دال، حيث أضحت الصورة الحية الصامتة والمتحركة لغة الخطاب الثقافي، ويمكن اعتبار وسائل الإعلام والاتصال هي أكبر مصدر للصور.
وبالنظر إلى الصورة بكل تفاصيلها وتنويعاتها تجدها الأكثر قدرة على أن تكون مرسلاً لملايين المتلقين في العصر الحديث لخلق تواصل حقيقي إنساني بين الشعوب، بعد أن فقد الإنسان قدرته على الإرسال والاستقبال. فهل يمكن للصورة أن تكون مرسلاً، وتلعب دوراً في مد الجسور؟ في الصورة المعروضة عبر شاشات التلفاز والانترنت طفل يختبئ في ظهر أبيه يعود من حيث أتى إلى صلبه، هارباً من رصاصات العدو الموجهة إلى صدره وقدره. هذه الصورة تفجر آلاف الدلالات في أذهاننا، وتنفجر المشاعر والأحاسيس، فيعجز اللسان ويفقد قدرته على القول. وفي صورة بغداد وطرابلس وبنغازي المتلفعة في عتم الليل، تنتظر قدرها، صورة مرعبة بثتها شاشات التلفاز ليلة انتظار ساعة الصفر، بغداد وطرابلس لم تنطقا بالدوال «الألفاظ» لكنهما فجرتا صورتهما آلاف المعاني في الأذهان والأرواح، لقد فقدت الألفاظ قدرتها على تجسيد فداحة الصورة ورعبها. وضعت الصورة في القرن الحادي والعشرين الإنسان أمام تساؤل، أيهما أكثر قدرة على تجسيد الدلالة أحياناً الألفاظ أم الصور؟ لقد برزت الصورة لتكون لغة القرن الحالي التي استخدمها الغرب في خطابه الثقافي، لأنها الأقوى والأكثر فاعلية في التأثير النفسي والعصبي على المتلقي، وهو الذي أيقن أن الصراع هو صراع نفسي. إن الصورة أكثر فاعلية في المتلقي، وأكثر قدرة على تجسيد الدلالة، فهناك مئات الصور تعجز جهاز الكلام والدوال رغم ما تفجره من معان في الذهن والروح، ولم تعد القضية اللغوية والأدبية بين مرسل للدوال ومتلق للدلالات فقط، وإنما قد يكون المرسل صورة حية صامتة فقدت القدرة على النطق خرساء، ابتلعت الدوال ولكنها فجرت لدى المتلقي آلاف الدلالات. ما أحوجنا الآن في هذا الزمن إلى صور تثير الدلالات لدى المتلقي، فتعمل في ذهنه وروحه، ويتحول المتلقي إلى مرسل يمتلك قدرة على تشخيص وتجسيد صورة تثير الدلالة لدى الآخر وتكون الصورة أكثر عمقاً وإيحاء وخاصة لدحض الأكاذيب الصورية لتي تبثها الدوائر الإمبريالية ضد سورية والتي تديرها أكبر دوائر المال إجراماً ووحشية. لقد أضحت الصور الحية المتحركة أو الصامتة المبثوثة عبر وسائل الإعلام أو الاتصالات هي الأكثر قدرة على تفجير الدلالة لدى المتلقي، باعتبارها لغة الخطاب الثقافي في القرن الحالي، وأضحت الصورة مرسلاً. لقد غابت الكلمات وطغى حضور الصورة بكل تنويعاتها وأشكالها، تخاطب ذهن المتلقي وترسل له إشارات وشيفرات ذهنية ونفسية، يستقبلها العقل والإحساس، وبذلك تحولت الصور في عالمنا الحديث إلى دوال لها سطوتها التي تلقى بها على ذهن المتلقي وتشكل رؤيته الفكرية والعاطفية. والتساؤل المطروح: هل سطت الصورة على الكلمات فأفقدتها سلطتها؟ هل نجحت الصور في تشكيل الرؤية؟ لقد وعى الغرب اختلاف اللغات، ولكنه استطاع أن يصدر ثقافته عبر الصور، فالكثير منا يستطيع مشاهدة الفيلم الأجنبي وفهم بدايته ونهايته وحكايته وصوره رغم جهله باللغة، وهذا يدلل على وعي الغرب وإيمانهم بأهمية الخطاب الصوري في بث شيفرات ودلالات للمتلقي يختزنها في ذهنه ويتمثلها حسب ما يراد له، وكأنما يسعى الغرب إلى صياغة ذوات المتلقين عبر شيفرات الصور. لم يكن خطاب الغرب الثقافي في العصر الحديث خطاباً لغوياً فقط يعتمد الدال والمدلول، وإنما اعتمد كذلك خطاباً صورياً يبثه عبر وسائله المختلفة «الإعلام والاتصالات» لإيصال رسالة للأذهان والقلوب، حيث وجد أن الخطاب الصوري أكثر عمقاً وقوة في تحقيق أهدافه، لذلك لم يكن الخطاب اللغوي هو الأساس في حربه العسكرية والنفسية والذهنية وإنما اعتمد خطاب الصور. ولعل معطيات الواقع تؤكد ما سبق، فالحرب على العراق وليبيا بدأت بعرض صور حية متحركة عبر شاشات التلفاز والحاسوب، إذ تجسد هذه الصور القوة العسكرية الأمريكية بجيوشها وأسلحتها وطائراتها وصواريخها العابرة للقارات. بدأت أمريكا وحلف شمال الأطلسي حربهما بخطاب صوري يبث الرعب والفزع العقلي والنفسي لدى المتلقي. ومن يتأمل الوجود الصهيوني، يدرك أن حضور الخطاب الصوري في الثقافة الصهيونية كان حاضراً بكثافة وما زال، ويعد هذا الخطاب الموجه للذات وللآخر من العوامل الأساسية في استمرارية هذا الكيان. إن صور البيوت المهدمة والأجساد المحترقة والآليات العسكرية تبث عبر نصف قرن أو ما يزيد، وقد كانت قادرة على تشكيل رؤى ودلالات لدى المتلقي العربي، حيث اختزنت في الذهن والروح حتى وصل الحال إلى ما هو عليه الآن من عجز واستكانة وضعف، وفقد المتلقي العربي قدرته أن يصبح مرسلاً للآخر. وإذا كان الخطاب الصوري الموجه للمتلقي العربي يعد من عوامل استمرارية الكيان الصهيوني، فإن قيام وجوده اتكأ على صور المحرقة «الهولوكست»، تلك الصور التي اعتمد عليها الصهاينة في إثارة التعاطف العالمي مع اليهود، وما زالت صور النساء والأطفال اليهوديات في المحرقة تعلق في متاحف أمريكية وأوروبية، والصهاينة يبتزون العالم من خلال هذه الصور. أما الخطاب الثقافي العربي الحديث فقد غفل عن الصورة باعتبارها أداة فعالة في حوار الآخر، ولم يعتمد عليها في إثارة قضاياه عالمياً، لأنه لم يستطع تشكيل شيفرات صورية تبث للذات وللآخر، فاقتصر العرب في حوارهم على الخطاب الكلامي ورددوا شعار الحوار الحضاري فأين حوار الصور؟ ومتى ستقفز الصورة لتكون أداة الخطاب الثقافي الموجه للذات وللآخر. ومن يتأمل الخطاب الثقافي العربي على المستوى الفني وعبر وسائل الإعلام، يراه ينحرف باتجاه سلبي، ففي الفن تحولت الكلمات والألحان إلى صور أنثوية عارية أفقدت المتلقي القدرة على تشكيل دلالة ما، فضاع اللحن والفن في خضم صور مشبوهة، وولدت الدلالة مشوهة ناقصة. إن الخطاب الصوري في الفن العربي الحديث تشكل في ظروف استثنائية وخلال فترة زمنية قصيرة يحيطه الغموض والتوتر واللامنطق، إذ يهدف إلى تشويه الدلالة في ذهن المتلقي وروحه، وبالتالي يعجز عن تشكيل رؤى يبثها للآخر. وبالنظر إلى الخطاب الإلهي الموجه للإنسان في بعض مراحله، يجده خطاباً صورياً حيث كان الكون صورة مرسلة للإنسان، يتأملها ويتدبرها ويعقلها، فتتشكل لديه دلالة اليقين من خلال صورة الكون. «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم». إن الرؤية البصرية في الآية السابقة تقود إلى رؤى تتحقق من خلال التأمل والتفكير والتدبر في قوله تعالى أفلا تعقلون» «أفلا تتدبرون». إن حاسة العين تسبق حاسة النطق في المعرفة، فالطفل يعي ما حوله برؤيته العينية، أي يمكن اعتبار الرؤية البصرية هي مفتاح المعرفة، وهذا يدفعنا إلى القول، إن الصور تسبق تشكيل المعنى، فالطفل يدرك ما حوله برؤيته البصرية، لذلك يمكن اعتبار حاسة العين محوراً أساسياً في تشكيل رؤية بصرية ورؤى بصيرية، إذ بواسطة الرؤية البصرية نترصد آلاف الصور الحية، حيث نختزنها في الذاكرة لتكون علامات مرئية صورية تجسد آلاف الدلالات والرؤى لدى المتلقي ، وبدورها تتحول هذه العلامات الصورية إلى دلالات ذهنية يختزنها المتلقي ويحولها بدوره إلى صور أو دوال صوتية. ويبقى السؤال : أيتهما أكثر قدرة على تفجير الآخر وقيادته، الصورة أم اللغة؟ إن الخطاب الصوري في الواقع الثقافي الحاضر قد يكون أكثر عمقاً وإثارة للدلالات والرؤى، حيث تكون الصورة مرسلاً قادراً على تجسيد ما تعجز الألفاظ عن تحقيقه أحياناً. وإذا كان الأديب يعتمد في إبداعه على الصورة الفنية المكتوبة، فإن متطلبات الثقافة في واقعنا الحاضر تحتاج إلى صور حية صامتة ومتحركة، تكون قادرة على تحريك الذهن والروح، لأن الصورة الحية في واقعنا الحاضر ربما تكون أكثر عمقاً ودلالة من نطقها وكتابتها، حيث تمنح المتلقي فرصة التفكر والتأمل، كما منحه الله فرصة التأمل في صورة الكون وفي صورته كي يصل إلى اليقين. إن الصورة الحية تمور بحركة تنتقل إلى ذهن المتلقي وروحه، حيث تستثيره لتولد الدلالات والرؤى. وتعد الذاكرة مخزناً لآلاف الصور الحية، بعضها يُمحى، والبعض الآخر ينفجر حسب معطيات الزمن المعاش، وبذلك تكون الصورة هي أساس الإنتاج الإنساني ، وأداة يوظفها الإنسان في خطابه الثقافي. ويبقى السؤال، أما آن الأوان للخطاب الثقافي العربي كي يبعث من رحم الواقع ويشكل صوراً تكون مرسلاً حياً نخاطب الأناوالآخر؟ |
|