|
ملحق ثقافي سيبولس وبوليمارخس أعطيا تفسيراً تقليدياً للعدالة، لم ينل قبول سقراط. أما تراسيماخس فقد دخل النقاش معلناً أن العدالة هي مجرد خدعة تهدف إلى تعزيز مركز القوي. العدالة الحقيقية هي لفائدة الأقوى. سقراط يحاول الرد على تراسيماخس، لكن الأخير لم يقتنع. الكتاب الأول من «الجمهورية» ينتهي عند هذه المسألة، أما بقية الكتب التسعة فتتألف من حوارات سقراط مع غلاكون وأدمينتس، والتي طرح فيها تعريفاً قوياً للعدالة. بدأ غلاكون Glaucon بتحدّي سقراط بطرحه الفرضية التالية:
كل الأشياء الجيدة مرغوبة لسبب من الأسباب التالية: 1- لذاتها وليس لنتائجها، مثل عدم الألم واللذة. 2- لنتائجها وليس لذاتها، مثل الدواء أو النقود. 3- لأجل ذاتها ونتائجها، مثل المعرفة والصحة. بعد ذلك بدأ غلاكون بتوجيه السؤال لسقراط مطالباً إياه أن يحدد مكان العدالة في أي من الأصناف الثلاثة. غلاكون وأدمينتس طالبا سقراط أن يثبت أن العدالة هي جيدة بذاتها. الناس الذين يتصرفون بعدالة هم عادة لخوفهم من العقوبة، فإذا لم تكن العدالة خيراً بذاتها، وكان بإمكان الناس ارتكاب الأخطاء دون مواجهة العقوبة، عندئذ سوف لن يكون هناك سبب لعدم التصرف بلا عدالة. وبدلاً من أن يجيب سقراط مباشرةً على أسئلتهم، اقترح رسم جمهورية مثالية لكي يستطيعوا أن يقرروا أي دور تلعبه العدالة في هذه الجمهورية. طرح سقراط مبدأ التخصص، الذي طبقاً له يمتلك كل مواطن دوراً محدداً يلعبه في المدينة. المدينة تحتاج إلى منتجين ينتجون الطعام والكساء، بالإضافة إلى طبقة الحراس الذين يحمون مصالح الدولة. هؤلاء الحراس جرى إعدادهم طبقاً لبرنامج شاق في التعليم يؤكد على اللياقة والشرف والحكمة. هم حُجبوا عن المؤثرات السيئة مثل الأساطير التي تصور ارتكاب الآلهة للرذائل، لكي لا يصبحوا قساة أو مترفين. أفضل الحراس يتم اختيارهم كحكام بينما الآخرون يصبحون احتياطاً يعملون كجنود.
لكي يحافظ سقراط على هذا التركيب الصارم لطبقة المنتجين والاحتياط والحراس، اخترع ميثيولوجيا تجيزها الدولة لا تسمح للناس في الانتقال من طبقة إلى أخرى. الحراك الطبقي ممكن فقط عندما يُعرّف الشاب ضمن طبقة معينة بإمكانات تتناسب تماماً مع مواصفات طبقة أخرى. حدد سقراط أربعة فضائل رئيسة في المظاهر المختلفة لهذه الجمهورية: الحراس يمتلكون الحكمة، المساعدون يمتلكون الشجاعة، والجميع يمتلك العدالة والاعتدال. وهكذا فإن عدالة الجمهورية المثالية لا تكمن في أي جزء معين من الجمهورية، وإنما في هيكل وتركيب الجمهورية كله. وكما في المدينة العادلة، تنقسم الروح في الفرد العادل إلى ثلاثة أجزاء، وأن عدالة الروح تكمن في التركيب الصحيح لمجموع هذه الأجزاء. الروح لها جزء راغب يحب النقود والحاجات المادية الأخرى كما في المنتجين، وهناك جزء آخر هو الجزء الطموح الذي يرغب بالشرف، كما في المساعدين الاحتياط، والجزء الأخير هو الجزء العقلي الذي يرغب بالحقيقة كما في طبقة الحراس. إن الجزء العقلي الذي يتحكم في الروح العادلة هو الذي يضمن صحة جميع الأجزاء. طبقة الحراس تعيش حياة صارمة، وبما أنها لا تمتلك النقود أو الممتلكات المادية فهي تعيش بالارتباط مع الجماعة، يختار أفرادها علاقاتهم الجنسية بالقرعة وهم عادة يتم فصلهم عن أطفالهم عند الولادة لكي لا تؤدي الارتباطات العائلية إلى إضعاف الولاء للدولة. وفي حركة ثورية، قياساً بذلك الزمن، أعلن سقراط عن عدم وجود سبب يمنع مساواة المرأة مع الرجل.
إن الحراس هم من طبقة الملوك- الفلاسفة، ويجب ألا يلتبس المفهوم مع الفلاسفة المعاصرين، الذين يُطلق عليهم «محبي المناظر والأصوات». هؤلاء المحبون للمناظر والأصوات ينجذبون فقط لمظهر الأشياء، أما الفلاسفة الحقيقيون فلديهم المعرفة بالأشكال اللامتغيرة والأبدية التي تكمن خلف المظاهر. عالم المناظر والأصوات يتألف من أشياء هي في ذات الوقت منافية لذاتها، مثل المرأة الجميلة هي جميلة ولكن عند مقارنتها مع الجمال الأسطوري فهي ليست جميلة. ولذلك، فإن الأشياء التي نراها ونسمعها هي أشياء للرأي أو المعتقد، وهي ربما جميلة أو غير جميلة. أما عالم الأشكال، مثل شكل الجمال هو ذو معنى مطلق، وهذه الأشكال هي موضوعات للمعرفة. إن أعلى معرفة يطمح إليها الملك الفيلسوف هي معرفة شكل الخير. سقراط لم يستطع مباشرةً توضيح ماهية هذا الخير وإنما أوضحه بدلاً من ذلك عن طريق عرض ثلاث مقارنات analogies : الشمس والخط والكهف. سقراط يدعونا لنتصور سجناء رُبطوا إلى كهف. كل ما يرون هو ظلال تتحرك على الجدار أمامهم، وهي ظلال لتماثيل تتحرك إلى الأعلى والخلف بينما لا يستطيع السجناء رؤيتها. هؤلاء السجناء يعتقدون أن الظلال حقيقية وهم كالشخص الذي يُغوى بالعالم التخيلي للقصص، لا يستطيع تمييز الحقيقة العليا. لو حُرر السجناء، فسوف يتجولون ويرون أن الظلال التي تصوروها حقيقية هي مجرد انعكاس للتماثيل التي خلفهم. هم يعتقدون أن هذه التماثيل حقيقية، مثل الفرد الذي يظن أن عالم المناظر والأصوات هو أكثر الأشياء واقعية. السجناء ربما يتجولون خارج الكهف نحو العالم الخارجي. في البدء سوف يصابون بعمى الضوء، ولكنهم في النهاية سيرون كل العالم حولهم. أخيراً، هؤلاء السجناء ربما بإمكانهم النظر إلى الشمس ذاتها وتمييزها كمصدر لكل الضوء ولكل الحياة. الشمس هي المقابل لشكل الخير: إذا كانت الشمس مصدراً لكل شيء مرئي في العالم، كذلك شكل الخير هو مصدر لكل شيء في عالم الإدراك. سقراط يدعو أصدقاءه لتصور خط يُقسم أولاً إلى اثنين ثم إلى أربعة أقسام. الجزء السفلي يمثل العالم المرئي والجزء العلوي يمثل عالم الإدراك intelligible realm. العالم المرئي يقسم إلى التصور والإيمان، الإيمان يُعتبر أفضل من التصور تماماً كما في رؤية التماثيل أفضل من رؤية الظلال. عالم الفكر يقسم إلى الفكر والفهم، حيث الفكر يفترض وجود الأشكال بناءً على العالم المرئي، أما الفهم فهو يدرك شكل الخير كأول مبدأ تبعته كل الأشياء الأخرى. تعليم الملوك- الفلاسفة مشابه لخروج السجناء من الكهف. عند الشباب، هم يدرسون الرياضيات لتعطيهم إمكانية معرفة العالم المجرد الكامن خلف العالم المرئي. بعد تمرين فيزيقي شاق، يبدأون بدراسة الفلسفة ومن ثم الديالكتيك. وفي سن الخامسة والثلاثين، يمضون الخمس عشرة سنة القادمة بإدارة شؤون الدولة قبل أن يصلوا في النهاية إلى مرتبة الملك – الفيلسوف عند الخمسين. هؤلاء الملوك- الفلاسفة هم مثل السجناء الذين يستطيعون رؤية الشمس، وحينها سيكون تأمّل شكل الخير هو أسمى أهدافهم. هم يجب أيضاً أن يهتموا برعاية الجمهورية وتدريب الجيل القادم، تماماً كما السجناء يجب أن يعودوا إلى الكهف لمساعدة رفاقهم. وبما أن الحراس سيرتكبون حتماً بعض الأخطاء في الحكم، فإن هذه الجمهورية المثالية سوف تتفسخ تدريجياً عبر أربعة مراحل من الحكومات المتدرجة في السوء: التيموكراسية، الأوليغاركية، الديمقراطية، والحكومة المستبدة. والشيء نفسه بالنسبة إلى الرجل العادل يمكن أن ينزلق إلى أربعة أنواع من التفسخ والانحلال أسوأها هو الاستبداد. الناس الذين يفعلون أي شيء من أجل راحة أنفسهم إنما يعيشون كالطغاة، لذا فالذين يتبعون «مزايا القوي» لثراسموكس هم أسوأ جميع الناس. فقط الفلاسفة يعيشون حياة عادلة لأنهم وحدهم لديهم القابلية لإدراك أن السعادة الحقيقية تكمن في حب الحقيقة. كل السعادات الأخرى هي مجرد انقطاع أو توقّف في الألم. الشعراء طُردوا من جمهورية سقراط لأنهم يصفون الكذب ويخاطبون المشاعر والغرائز الهابطة بطريقة تفسد الناس. لكن سقراط أسف لهذه الضرورة ودعا الآخرين لإقناعه بعدم طرد الشعراء. تحليل نظرية العدالة في «الجمهورية» ليست دليلاً عملياً كافياً لسياسة المستقبل، كون الكتاب احتوى على مجموعة من الإثارات الجريئة. هو ربما أهم عمل فلسفي على الإطلاق في الثقافة الغربية بسبب الرؤى المدهشة وغير التقليدية التي احتواها. فكرة مساواة الرجل والمرأة وأن العدالة يمكن العثور عليها في هيكل الدولة وليس في أفعالها كانت ثورية أيام أفلاطون. حتى بعد ألفين وخمسمائة عام لم تحاول أية دولة ممارسة عملية التعليم لخمسين سنة التي اقترحها للحراس أو للحياة الجماعية البعيدة عن العائلة أو التملك الخاص. ولكن عرض هذه الأفكار الراديكالية ضمن إطار الدولة المثالية، كان أفلاطون يتحدانا في إيجاد أسباب لرفضها. لو أردنا تكذيب هذه المقترحات غير التقليدية، يتوجب علينا التفكير وبنفس درجة الإبداع الذي اتبعه أفلاطون في صياغتها. إن نظرية الأشكال لأفلاطون هي العمل الأكثر أهمية ضد النسبيين أمثال ثراسميكوس. الأخير يجادل بأن الحقيقة والعدالة ليستا أكثر مما يقوله الأقوى بشأن وجودهما. أفلاطون يستجيب بأن ثراسميكوس وأمثاله يرون كل شيء نسبياً فقط لأنهم التصقوا «بعالم الأصوات والمناظر» الذي يصنع خبرتنا الحسية. هذا العالم ليس هو الواقعي وإنما ظلال للعالم الحقيقي للأشكال الذي لا يتغير فيها أي شيء. حالات العدالة في العالم المرئي ربما نسبية، وما يبدو عادلاً بالنسبة إلى فرد ما، هو غير عادل بالنسبة إلى آخر، ولكن شكل العدالة ذاته هو مطلق ولن يتغير. نسبية ثراسميكوس هي إذاً نتيجة لعدم رؤيته لكامل الصورة. إن نظرية الأشكال ربما تكون «نظرية» غير واقعية طالما نحن فقط أمام مجازات واستعارات شديدة الإيحاء، فهي ليست حججاً لإقناعنا. عندما استخدم سقراط لأول مرة فكرة وجود أشكال خالدة، غير مادية، غير متغيرة تكمن وراء عالم الظهور، كان غلاكون وأدمنتس قد وافقا على ذلك دون نقاش. كل ما لدينا هو استعارات للشمس والخط والكهف، التي تترابط مع بعضها لتعطي تفسيراً مقنعاً لوجوب إيماننا بوجود الأشكال. وبما أن نظرية الأشكال هي جوهر النقاش في الجمهورية، وأن أفلاطون كان يشعر بعدم الحاجة لإثباتها، ذلك ربما يشير إلى كسل فكري. غير أننا ربما نسيء الفهم عند النظر إلى مناقشة الأشكال كنظرية تحتاج إلى برهان. أفلاطون يستخدم المجاز بدلاً من الحجة في دعمه للأشكال، وهو ما يشير إلى أنه لا يسعى إلى إقناعنا في مسألة معينة بقدر ما يسعى إلى تغيير طريقتنا في النظر إلى الأشياء. في الجمهورية، لم يكن وجود الأشكال استنتاجاً نصل إليه، وإنما أساساً يجب الانطلاق منه. لم يعرّف أفلاطون أبداً شكل الخير، وإنما يطلق عليه اسم المبدأ الأول. هذا المبدأ هو المكان الذي تبدأ منه سلسلة الاستنتاجات. فمثلاً، لو أنني استنتجت «أن لا وجود للسيارة أمام الدار»، ثم أن عائلتي يجب أن تكون خارج المنزل، وعليه لا بد أن يكون البيت مقفلاً، لذا أنا أفضل البحث عن المفتاح تحت البساط الذي في مدخل البيت. ملاحظة «أن لا سيارة أمام المنزل» هي المبدأ الأول. لو قلت «أنا أفضل البحث عن المفتاح تحت البساط» سيسأل أحد ما: لماذا؟ وأنا أجيب: «لأن البيت مقفل»، وآخر يسأل مرة أخرى: لماذا؟ وأنا أجيب لأن الأهل خارج المنزل وهكذا. أن «لا سيارة أمام الدار» هو مبدأ أول افتراضي لأننا نضع فرضية بافتراض صحة ذلك. يمكننا فلسفياً التحقق من هذه الفرضية بالتأكد ما إذا كانت عيوننا تقول لنا ما هو حقيقي. أفلاطون يدّعي أن الإجابة على هذا السؤال تقودنا لافتراض وجود الأشكال الكامنة في الخفاء والتي بدورها تقودنا إلى شكل الخير. شكل الخير ذاته هو مبدأ أول غير افتراضي، لأنه لا يمكن تبريره بأي حقيقة أو دليل آخر، هو الشيء الوحيد الحقيقي بذاته. وعليه فإن وجود شكل الخير والأشكال عامة ليست أشياء يمكن المحاججة فيها. فقط بمقتضى شكل الخير يمكن بناء أساس للنقاش، وبدونه لا يمكن تبرير أي استنتاج، وبذلك فإن طلب سبب لاعتقادنا بشكل الخير هو كمن يضع العربة أمام الحصان. تضع الجمهورية عدداً من التوصيات لتفضيل الحكم السلطوي وحتى التوتاليتاري، وهناك انقسام حاد بين الباحثين حول الكيفية التي يُفسّر بها ذلك. جمهورية سقراط المثالية تسمح بمقدار ضئيل بالحرية الفردية والحراك الاجتماعي، وهي بذلك ضد الديمقراطية، وتستخدم الرقابة الصارمة والبروباغندا، لدرجة نفي كل الشعراء خارج المدينة. الفيلسوف كارل بوبر اتّهم الجمهورية بكونها الداعم الأصلي للأنظمة التوتاليتارية في القرن العشرين كنظام ستالين وهتلر. آخرون اعتبروا الجمهورية أول اختبار قاس ودائم للفلسفة السياسية في العالم الغربي وأن الديمقراطية الليبرالية الحديثة تدين إلى أفلاطون بإرث فكري عظيم. لا جواب بسيط للسؤال حول ما إذا كانت الفلسفة السياسية للجمهورية حميدة أم خطيرة، لأن كتاب الجمهورية ذاته ليس كتاباً بسيطاً. يجب أن نتذكر أن أحد أهداف الجمهورية هو تحريض النقاش المنتج والفكر المكثف، فإذا وجدنا فيه مقاطع مثيرة للحيرة، فهذا هو ما أراده أفلاطون. |
|