تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


محاضرة... الآلية اللغوية التي يستعملها العقل في التعبير عن الذات

مجتمع
الأحد 19-2-2012
حنان علي

العقلُ هو الكلُّ المنظم للسيرورات والمضامين النفسية ، التي تتيح للفرد أن يستجيب للمنبهات الداخلية و الخارجية استجابات متكاملة و دينمية .

وهو المُسمَّى كذلك لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك. بالتعريف بالعقل افتتح الدكتور هاني رزق محاضرة غنية بتفاصيل تطور العقل عبر الزمن و علاقته باللغة ،وامتلاكه ملكات استعرافية لغوية عميقة.‏

عرض الدكتور رزق في بداية المحاضرة تعريفا شاملا للعقل لغويا و بيولوجيا ونفسيا، و بيَّن الوظائف العقلية لآليات التفكير والتعرف ، أو ما يسمى بالاستعراف. و كان التعريف التكاملي لملكات العقل والاستعراف و البيان بأنه :مجموع المعرفة و الإدراك والتعلم و التفكير و التذكر و التصرف على نحو ذكي و التصور والاستنتاج والمحاكمة و تمييز ما هو خير و ما هو شر . و هذا المجموع يمثل ظاهرة انبثاقية ذلك أنه نتاج الخصائص التي تميز الإنسان من سائر الحيوان وهي أربع: النمو الاستثنائي لقشرة الدماغ المستحدثة ، الشكل الفراغي ثلاثي الأبعاد للحنجرة و لثنيتيها الصوتيتين انتصاب القامة و تحرر الطرفين العلويين و السير على قدمين ، و تقابلية إبهام اليد مع الأصابع الأخرى ."‏

ثم انتقل الدكتور رزق إلى شرح كيفية تطور العقل عبر الزمن ، و بينّ خلافا للعقيدة الداروينية ، أن العقل لم يصل إلى الإنسان من كائنات حيوانية سبقته بوساطة الانتقاء الطبيعي لأنها لا تملك العقل أصلا ، فالإنسان تفرع من جذع تطوري قبل أكثر من 20 مليون عام . وفقا لأبحاث استغرقت خمسة عشر عاما( 1994-2009 ) قام بها ستة و أربعين باحثا من ثماني جنسيات في جامعة كاليفورنيا . و قد مسحت هذه الأبحاث منطقة (آراميس )من منخفض عفار في الشمال الشرقي من أثيوبية و عُثر على العديد من الأحفوريات الحيوانية و النباتية، و كان أهمها هيكل أنثى يبلغ طولها مئة و خمسين سم و يصل وزنها إلى خمسين كيلو غراما وسميت " آرديبيتيكوس راميدوس " و التي أثبتت عكس النظرية الداروينية .‏

ومن أجل فهم الآلية اللغوية التي يستعملها العقل في التعبير عن الذات ، تطرق الدكتور رزق إلى مقارنة الإنسان بالقردة العليا و بخاصة الشمبانزي ، و ذلك من حيث وزن الدماغ في كلا منهما ، و مساحة التلافيف الدماغية . و بيَّن مدى الفجوة العقلية السحيقة التي تفصل في متصلة المكان و الزمان بين الإنسان و الشمبانزي.وبالرغم من أن جميع المخلوقات وُهبت الماكنة التكرارية كجزء من تجهيزاتها العاملة المعيارية الغريزية ،إلا أن الشمبانزي لايملك أصلا ساحات دماغية خاصة بالحوسبة المولدة المؤلفة التي يقتصر وجودها على الإنسان .‏

و ذكر الدكتور رزق أن العقل يشتمل على أربع مجموعات من المَلكات الاستعرافية اللغوية وفقا ل" نعوم تشومسكي " و تؤلف في معظمها البنية العميقة للغة و هي : أولا : ملكة الحوسبة الموِّلدة و يقصد بها المقدرة على إنشاء عدد غير محدود من "التعابير " المختلفة . و تشمل نوعين من العمليات الذهنية : الحوسبة المولدة التكرارية : و هي الاستعمال المتكرر –في البنية السطحية للغة –لوحدة بعينها بغية إنشاء تعابير جديدة وحركات مختلفة . والحوسبة المولدة الموالفة و تتمثل بمزج عناصر منفصلة و مألوفة بغية توليد أفكار وحركات لا حصر لها ، و يُعبر عنها بكلمات و حركات غير مألوفة كقولنا : المؤلفة قلوبهم . إن الحوسبة المولدة الموالفة شائعة جدا في الطبيعة ومتأصلة فيها و على أساسها تقوم الحياة .‏

و تأتي ملكة الموالفة المختلطة للأفكار ثانيا في مجموعة الملكات الاستعرافية ، و تتمثل بالربط الوتيري لأفكار تعود إلى مجالات مختلفة من المعرفة ، فيتيح هذا الربط لفهمنا الفن و الفضاء و الزمن و السببية والصداقة ، و تنبثق عن هذا التمازج قوانين جديدة ، و علامات اجتماعية ، و تقانات لاعهد لنا بها .‏

أما ملكة الرموز العقلية فيمكن تعريفها بحقيقة أننا يمكن أن نحول عفويا و تلقائيا أي تجربة حسية واقعية أو تخيلية إلى رموز نحتفظ بها لأنفسنا ، أو ننقلها تعبيريا للآخرين من خلال اللغة أو الفن أو الموسيقا أو الراموز الحاسوبي.‏

و أخيرا ملكة الفكر التجريدي التي ترتبط بالبشر وحدهم - دون سائر الحيوان- فالإنسان فقط يتفكر مليا بالخلق و الموت و التاريخ و اللانهاية و اللون و الأفعال والأسماء .‏

وأشار الدكتور رزق إلى المكانة الاستثنائية للغة بين ملكات العقل و مكوناته ، فاللغة ينسجها العقل (البنية العميقة للغة) كي تعبر بالكلمات عن الذات(البنية السطحية للغة )و تغدو ملكة متفردة عندما نقارنها بوسائل الاتصال التي تستعملها الكائنات الحية الأخرى القائمة على الاتصال الغريزي الموجود بالإنسان، لكنه وحده يمتلك نظاما استثنائيا للتخاطب و الاتصال يقوم على اللغة . و اللغة تعمل على نحو أخاذ في الطريقتين السمعية و البصرية .‏

و أنهى الدكتور رزق محاضرته بالتعريف بماهية العلاقة بين العقل و اللغة من جهة ،وعلم المعرفة من جهة أخرى. و ذكر أن العقل يضع بالمحاكمة المنطقية نظريات المعرفة و قوانينها ، التي يقرأها العقل في كتاب الطبيعة، و تعمل اللغة كوسيلة نقل لهذه المعرفة إلى الذات و الآخرين . وأشار رزق أن كتاب الطبيعة مكتوب بلغة رياضية تتسم بأناقة و هذا يعني وفقا لعلم المعرفة،أن الفهم الأكثر وضوحا و بساطة للنظرية يقتضي ضغط التعبير اللغوي عنها إلى أقل عدد ممكن من الكلمات ، يتم التعبير عنها في أقصر وقت ، فتصبح نتروبية بجملة في أدنى قيمة لها .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية