تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


زحزحتْ جبلَ الإساءة ذرّةُ الإحسانِ

آراء
الخميس 7-6-2012
  د.جهاد طاهر بكفلوني

أرأيتَ ذلك الإنسان الذي يكيل لك المديح ويحبّر آياتِ الثناء مخترعاً لك أوصافاً ولدتْ وشبّتْ عن الطوق في مخيّلته المتملّقة بينما رفض الواقع منحها بطاقةٍ منكراً وجودها أصلاً ، أرأيتَ ذلك الإنسان كيف يسير إلى طريق الإفلاس الاجتماعيّ يوماً بعد يومٍ ويوشك مركبه على الرسوّ في شاطئ العزلة عمّا قريب ؟!

هذا الإنسان الذي بات سلعة من السهل أن تعثر عليها اليوم في سوق التعامل بين الناس ؛ بنى علاقته مع الآخرين على أساس المنفعة فهي المادة الخام التي تراءى له في المنام أنها تصلح للنهوض بصرحٍ ممرّد شامخ ، وهي مادة شاملة تغنيه عن البحث عن المواد الأخرى ، والمشكلة أنّ حدود المنام واليقظة تداخلتْ لديه فيما بينها ، بل إنها تخطّتْ مرحلة الذوبان والانصهار فأصبحتْ كلاً واحداً وهو بذلك التماهي من الراضين الفرحين .!‏

أمّا صفات ذلك الإنسان فحدّثْ ولا حرج : تعرض له حاجة لديك فيلاحقك حيثما اتّجهتْ ويمارس عليك ضغطاً شديداً بإلحاحه لتقضي له حاجته مطبّقاً المثل القائل : ((السيّد التصقْ به غلب السيّد لا أعطي )) ، وخلال عملية الملاحقة واللصوق يقسم لك الأيمان المغلّظة أنه لن ينسى فضلك عليه مادامت الأنفاس تتردّد في صدره ، وتقع في الخطأ فتصدّقه ، حتّى إذا قضيتْ حاجته وصادف أن التقاك في اليوم التالي وجد رفـْع يده لإلقاء التحيّة ولو عن بعدٍ عمليّة مرهقة مكلفة فتراه يؤثر عدم رفع اليد ، وإذا بادرتَه بالسلام عليه ردّ بطريقة تغلي فتوراً ثمّ ذهب إلى أهله يتمطّى .‏

تتغاضى عن فعلته الشنعاء وتحاول التماس العذر له ، ثمّ يمرّ الوقت فتعرض له حاجة أخرى لديك ، فيأتيك حاملاً على ظهره أثقالاً ينوء بها هذا الظهر ، هي أكياس جديدة من النفاق والمديح الكاذب الممجوج والمبالغة المنفّرة ، علماً أنه يعلم علم اليقين أنّك مازلتَ على استعدادٍ لتقديم يد العون له دون أن يجد نفسه مضطرّاً لسفح ما تبقّى من ماء وجهه ؛ ممارساً طريقة مؤسفة في التودّد والتملّق .‏

والويلُ ثمّ الويلُ إذا لم تقمْ بإنجاز ما طلبه منك ، أمّا عجزك عن هذا الإنجاز فجريرة بل جريمة لا تغتفَر ولا تسقط بالتقادم .‏

عجزك لا تقاعسك في مساعدته ذنبٌ يكفل انتقاله إلى المعسكر المضادّ كلمحٍ البصر ، وسرعان ما تراه وقد هيّأ الخيام الضخمة لأنه ينوي الإقامة في هذا المعسكر أمداً طويلاً .‏

هو إنسان قد تجد نفسك مضطرّاً للتعامل معه مقتدياً بقول الشاعر:‏

ووضعُ النّدى في موضعِ السيف بالعُلى‏

مضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ النّدى‏

وتهمّ بتطبيق هذا القول لولا أن رأيتَ العاطفة الإنسانيّة التي تأمرك بالإحسان حتّى إلى من أساء إليك :‏

أحسنْ إلى الناس تستعبدْ قلوبَهمُ فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ‏

صرفتك هذه العاطفة النبيلة عن الردّ الذي قد يكون متعطّشاً للثأر ، وعدتَ إلى يقينك القديم القائل إن الثأر مؤشّر خطيرٌ على الضعف ولو حرص على الظهور بمظهر القوّة.‏

دارَ هذا الحديث بين قلبِ يتحاشى القسوة ويخشى أن يكون فظّاً ، ونفسٍ أمّارةٍ بالسوء تحاول تبرير الخطأ إذا وقعتْ عرِضاً فيه .‏

أصختُ السمع ، ولعلّي كنتُ مشدوداً إلى الحوار ، لكنّي لم أستسغْ تبرير النفس ما قد ترتكبه من أخطاء ، ووجدتُ نفسي مندفعاً لا شعوريّاً إلى القلب لأقف دون تردّدٍ إلى جانبه معلناً موافقتي على كلّ خطوة يخطوها ، وعلى كلّ قرار يتّخذه مادام القرار نابعاً من حرصه على رؤية ينبوع الخير منسرباً في الاتجاهات كلّها.‏

لمستُ القلبَ فوجدتُه مطمئنّاً لسريرتي ، وسرّني استقبالي من قبَله بحفاوة بالغة : وقبل أن أبرح المكان طلب منّي أن أتمثّل هذا البيتَ وأن أعمل به على الدوام :‏

كمّتْ فمي ذكرى الجميلِ وزحزحتْ‏

جبلَ الإساءةِ ذرّةُ الإحسانِ‏

وقبل ذلك علّمني ولن أنسى :‏

ازرعْ جميلاً ولو في غيرِ موضعهِ‏

يبقى الجميلُ جميلاً حيثما زرِعا‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية