تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الجامعة العربية تفقد هويتها

شؤون سياسية
الثلاثاء 31-1-2012
د. عيسى الشماس

عندما قامت الجامعة العربية في منتصف الأربعينات من القرن الماضي ، كانت الردّ الضروري الذي لا بدّ منه على دعوات الأحلاف الاستعمارية التي كانت تحاول أن توقع بعض الدول العربية المستقلّة في شباكها ، مثل حلف بغداد وحلف الهلال الخصيب ..

وغيرهما . وكان من أهم ما ورد في ميثاق الجامعة العربية الذي كان لسورية دور أساسي في وضعه، الحفاظ على أمن الدول العربية واستقلالها ، وعدم السماح لأي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية مهما كانت الأسباب والمبررات، إضافة إلى عدم جواز تدخل الدول العربية منفردة أو مجتمعة ، في شؤون أي دولة عربية مهما كان نظام الحكم فيها ، باعتبار ذلك شأن الشعب العربي في كل دولة ، وإنّما على الجامعة العربية أن تساعد في حلّ المشكلات التي تحدث بين الدول العربية ، أو إذا طلب منها ذلك ، مع الحفاظ على سيادة كل دولة واستقلاليتها ، وهذا بحسب المادة الثانية والمادة الثالثة من ميثاق الجامعة العربية .‏

ولكن ما حدث من مواقف في الجامعة العربية ، ولا سيّما في السنوات الأخيرة ، يشير إلى أن بعض الدول العربية (المتزعمة حديثا ) تحاول أن تحرف الجامعة عن هويتها العربية ، من خلال العمل المخالف لميثاقها وأهدافها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، بدءاً من القضية الفلسطينية مروراً بالعراق والسودان والصومال ، إلى ما حدث في ليبيا وصولاً الآن إلى الوضع في سورية ..حيث بدأت الجامعة العربية ، أو كادت ، تتخلّى عن ميثاقها شيئاً فشيئاً، وتعمل بما يمليه عليها وكلاء أصحاب المشاريع الاستعمارية / الأميركية والإسرائيلية ، تنفيذاً لأوامر وقرارات تملى عليهم ، ولا سيّما عربان الأمراء والمشايخ الذين أظهروا حقيقة ارتباطهم كأدوات لمشاريع أجنبية ، تحت غطاء مزيّف من الحمية والغيرة على المصالح العربية. إن ما جرى في أروقة الجامعة العربية من اجتماعات وتصريحات ، وما اتخذ من قرارات بشأن الوضع الطارىء في سورية، وآخرها ذلك القرار الذي اتخذه مجلس الجامعة ( العبرية كما بدأ يطلق عليها مؤخّراً ) في 22/1/2012، كان مخيباً لآمال السوريين وملايين العرب الذين يتعاطفون مع الشعب السوري الأبي ، ويدعمون المواقف السورية المشرّفة تجاه القضايا العربية. حيث كشف التقرير بما لا يقبل الشك ، نيات التآمر الفاضح الذي يقوم به بعض أمراء العربان وشيوخهم بموازاة التآمر الخارجي على الدولة السورية ، الذي يسعى إلى التدخل المباشر في الشؤون السورية ، وفرض نوع معين لمستقبل الشعب السوري بالنيابة عنه ، وبعيداً عن إرادته ، وإنّما هو تنفيذ لما يريده أعداء الشعب السوري.‏

فهل أصبحت الجامعة (العربية ) توجّه من الخارج بطريقة غير مباشرة ، أم تدار بالتحكم عن بعد عبر أدوات داخل الجامعة محسوبة على ( العروبة ) ، وتنفّذ ما يريده المخططون لها في الخارج ؟ وإلاّ كيف يفسّر موقف كل من وزيري خارجية قطر والسعودية بسحب مراقبيهما من البعثة العربية إلى سورية ، ومن ثمّ تحريض الدول الخليجية لتحذو حذوهما ، والمطالبة بتشديد العقوبات على سورية ،والوقوف إلى جانب الإرهابيين من المعارضة المسلّحة ، والتلويح بتدويل الأزمة في مجلس الأمن ؟كل ذلك بعد زيارة كل منهما إلى واشنطن ، وتلقي الأوامر من الوزيرة الخبيثة / هيلاري كلينتون / ومن نائبها الذئب المحتال / جيفري فيلتمان / مثير الفتن والدسائس بين أبناء العروبة . لقد كانت الآمال معقودة على تقرير بعثة المراقبين العرب في سورية ، بأن يكشف عن الأوضاع في سورية ، بإيجابياتها وسلبياتها ، وهذا ما أكده تقرير رئيس البعثة، وأظهر تجاوب الدولة السورية مع عمل المراقبين ، والتزامها بتنفيذ بنود البروتوكول المعتمد ، مقابل وجود عصابات مسلّحة تمارس القتل والتخريب ، وإن كانت ثمة ثغرات يمكن تلافيها بالتعاون بين الأطراف المعنية.‏

ولكن الاجتماع الوزاري (غيرالموقر ) بدلاً من أن يتبنّى التقرير ويثني على تعاون الدولة السورية ، ويكافئها برفع العقوبات الاقتصادية والسياسيّة ، ويؤسّس لمرحلة جديدة تعزّز دور المراقبين بما يسهم في حلّ الأزمة بالطرق السلمية والحوار الوطني المسؤول ، جنح المجلس الوزاري باتجاه التصعيد ضدّ سورية، ضارباً عرض الحائط حقيقة ما جاء في تقرير بعثة المراقبين ، وأصدر قراراً كيديّاً ضد سورية دولة وشعباً ، متجاهلاً كل الخطوات الإصلاحيّة التي قامت بها الدولة السورية ، منذ بداية الأحداث المؤسفة وحتى الآن .‏

إنّ من يدقّق في بنود قرار المجلس الوزاري العربي ، ويقارنها مع الخطوات التي قامت ، وتقوم بها القيادة السورية، لا يجد سوى تكرار لهذه الخطوات ، ولكن بصيغة عدائية / كيدية ، بهدف حرف المسار السياسي/ الإصلاحي ، وتحويل الوضع السوري إلى مجلس الأمن ( الأميركي) ، بما يسمح بالتدويل والتدّخل الخارجي المباشر في الشؤون السورية ، وهذا ما يسعى إليه أصحاب المشروع الاستعماري الجديد في المنطقة العربية . ويبدو أنّ مهندسي القرار الوزاري المشؤوم، من أمراء النفط ومشايخه وأسياده، لم يطلعوا على تلك الخطوات الإصلاحية الوطنية، وربّما اطلعوا عليها ولكنهم لا يريدون الإقرار بها ؛ ألم تشمل هذه الإصلاحات قانون انتخاب عصري للإدارة المحلية ومجلس الشعب ؟ ألم يصدر قانون الأحزاب الجديد من أجل التعددية السياسية وتداول السلطة ، وقد تشكّل حتى الآن أربعة أحزاب ، وهناك أحزاب في طريق التشكيل الرسمي ؟ ألم يتمّ العمل من أجل تشكيل حكومة وطنية من جميع أطياف المجتمع السوري؟ ألم تدعو القيادة السورية إلى الحوار الوطني بمشاركة الفعاليات المختلفة ، وقد بدأت به منذ أكثر من ستة أشهر ، وما زالت متمسكة به باعتباره المخرج الأساسي لتجاوز الأزمة الراهنة ، ولكن المعارضة الخارجية هي التي ترفضه؟ ألم تصدر مراسيم عفو عن أكثر من ثمانية آلاف اعتقلوا على خلفية الأحداث الأخيرة ؟ ألم تعد القيادة السورية بخطوات إصلاحية أخرى ؟! إذاً ماذا قدّمت الجامعة في قرارها سوى مؤشرات على الاستجابة لأمر عمليات أميركي-صهيوني ، بمباركة أوروبية ، تعهّد تنفيذه الثنائي ( حمد وسعود ) بالنيابة عن ما يسمّى ( مجلس التعاون الخليجي ) لقاء ضمان الحفاظ على عروشهم. وذلك بما يسمح بالتدخل في هذه الإصلاحات ، بما ينسجم مع أبعاد المشروع المعدّ ضد سورية ، ولا سيّما تخلي السيد الرئيس بشار الأسد عن القيادة والسلطة، وغاب عن بصرهم وبصيرتهم أنّ هذا المطلب تدخل مباشر في الشؤون السورية لأنه مخالف لميثاق الجامعة العربية والأمم المتحدة ، وأن بشار الأسد ليس رئيساً فحسب ، وإنّما هو ضمير هذا الشعب ورمز وحدته الوطنية ، ولن نتخلّى عنه في الأوقات العصيبة . فسورية قيادة وشعباً، ترفض ذلك القرار شكلاً ومضموناً ، وهي ماضية في طريق الإصلاح الشامل ، سياسيّاً واقتصادياً واجتماعياً، ولا تنتظر من الجامعة التي تسمي نفسها ( العربية ) ، أن ترسم لها مستقبلها أو تعطيها الأوامر التي يتلقاها المتزعمون العرب الواهمون ، من عربان النفط والتبعية الأميركية ، الذين عرّت مواقفهم حقيقة نياتهم العدائية ضد سورية ، وهم يتخلون عن عروبتهم ويسرون بالجامعة ( العربية )، بعيداً عن أهدافها وميثاقها ، وأخيراً إلى فقدانها هويتها العربية إذا لم تصح من غفوتها ، وتعود إلى أصالتها وانتمائها .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية