|
ملحق ثقافي
بخصوصية ما يحاول المتابعون والنقاد استقراءها لتبين ملامح المشهد الثقافي على أبواب العام الجديد. وتعتبر فترة أواخر العام موسماً ثقافياً غنياً تتصدر فيه الصحافة المشهد في سعيها وراء إنجاز مراجعات شاملة لمختلف نواحي الانتاج الثقافي والإبداعي الذي سجله العام الفائت، وكثيراً ما تتداخل في هذا النشاط الثقافي والإعلامي المكثف العوامل الثقافية والاقتصادية في توجيه المراجعات والاحصائيات نحو إبراز أو تهميش فعاليات أو ملامح معينة من النشاط الثقافي. ففي غمرة هذا النشاط الذي يسيطر على معظم الصفحات الثقافية في الصحف الكبرى والمواقع الالكترونية المتخصصة يمكن ملاحظة قدر كبير من التنافسية بين التيارات الثقافية والمؤسسات المعنية بالإنتاج الثقافي وتسويقه، وتمثل هذه التنافسية في الحقيقة وجود مراكز قوى ثقافية واقتصادية تحاول بأشكال مختلفة السيطرة على السوق الثقافية والعمل على تكوين ذائقة عامة تتوافق مع رؤاها ومصالحها. ويعتبر الكتاب إنتاجاً وتسويقاً وقراءة أحد أهم المجالات التي تتجلى فيها تلك التنافسية. ويسجل النشاط الاعلامي المهتم بالكتاب كثافة كبيرة في أواخر العام تكون عادة متوازية مع نشاط اقتصادي لا يقل كثافة في مبيعات الكتب وتسويقها في العواصم الكبرى مثل لندن وباريس ونيويورك وبرلين... ويؤدي هذا النشاط الاستثنائي في الترويج الإعلامي والتسويق إلى حراك ثقافي يتجلى في نقاشات وجدل وكتابات نقدية متخصصة ومراجعات تحاول رسم صورة نقدية عامة لأهم ما نشر من كتب على مدى عام كامل. والحديث هنا حول حركة النشر على مدى عام واحد يتعلق بعشرات آلاف العناوين الجديدة الصادرة في بلد واحد مثل بريطانيا على سبيل المثال. وفي سياق هذا الكم الكبير للكتب المنشورة يمكن تخيل مدى حيوية موسم نهاية العام من الناحية الثقافية والفكرية، فالأمر يتعدى كثافة في النشاط الإعلامي والتسويقي إلى كونه حالة من النشاط الفكري العميق الذي يسعى إلى قراءة ملامح المجتمع الثقافية وآفاق تطلعاته من خلال رصد وتحليل كمية ونوعية الكتب التي يقرؤها الناس في مجتمع ما. وفي الدول الأوربية يبلغ معدل القراءة للفرد 200 ساعة سنوياً بينما لا يتجاوز معدل القراءة للفرد في الدول العربية 6 دقائق سنوياً فقط!! في سياق معلومات إحصائية من هذا النوع يمكن تخيل مدى أهمية موسم الكتاب في أواخر العام بالنسبة للمجتمعات الأوربية. إنه موسم ونشاط اجتماعي بامتياز لا ينحصر في دوائر نخبوية ضيقة بل يتفاعل مع الناس ويعبر عن حقيقة ارتباط الثقافة بالمجتمع. ما يميز موسم الكتاب في أوربا هذا العام كما أورد مجموعة كبيرة من النقاد والمتابعين هو تراجع حدة التصنيفات النمطية للقراء وللكتب المقروءة، فقد أظهرت المعلومات والمراجعات أن عام 2011 شهد تحولاً في أنماط القراءة تجلى في خروج القراء من أسر عادات القراءة القديمة لديهم للبحث عن عناوين جديدة كانت تقع سابقاً خارج إطار اهتماماتهم. ويفسر بعض النقاد هذا التحول في أن الإنسان في أوربا أخذ يواجه حقائق جديدة مقلقة في مجالات حياته كافة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وليس الأمر في جدة هذه المواضيع بقدر ما هو في طريقة التعاطي معها والنظر إليها من قبل المجتمع. ففي سياق عالم تهدده الأزمات الاقتصادية والتحولات السياسية والاجتماعية الكبرى بدأ الأوربي يفقد الطمأنينة والاحساس بالاستقرار الذي تكرس عبر العقود الماضية نتيجة لتراكم الثروة وما نتج عنها من مكتسبات استهلاكية وترفيهية كبيرة. ويقول بعض النقاد أن الإنسان الأوربي لم يعد يجد في سياق هذا القلق أجوبة على أسئلته الملحة لدى وسائل الإعلام، لقد أصبحت هذه الوسائل غير قادرة على تلبية حاجات الفرد في مواجهة أسئلته الجديدة. وهكذا بدأت نسبة كبيرة من القراء يبحثون عن أجوبة لأسئلتهم الملحة في الكتب. وبهذا المعنى يمكن فهم كيف تحولت شرائح من القراء إلى قراءة نوعيات من الكتب لم تكن تقع سابقاً في إطار اهتمامها. فمن كان قراءاته تقتصر على الروايات الرومانسية وجد نفسه مدفوعاً تحت وطأة التحولات والقلق إلى البحث عن عناوين كتب سياسية يمكن لها أن تقدم إجابات ما أو معرفة ما بالواقع. ومن كان ينتمي سابقاً إلى قراء كتب السياسة بدأ أيضاً بالبحث عن عناوين على رفوف الأدب مدفوعاً بقلقه وبحثه عن المعرفة وبيأسه من الوسائل الإعلامية.. وهكذا فإن أهم ما يميز عام 2011 هو ذلك الانزياح والتداخل بين حدود الأنماط التقليدية في الذائقة والتفضيلات وهذا ما يفسر خفوت نجم ظاهرة قوائم الكتب المفضلة والثابتة في الصحافة الثقافية في نهاية هذا العام، ذلك أن القراء قد تحرروا إلى حد بعيد خلال العام المنصرم من سلطة قوائم الكتب الأكثر مبيعاً أو الأكثر تفضيلاً والتي كانت تروج وتصنع من قبل مؤسسات النشر والتوزيع وفقاً لمصالحها الاقتصادية. سجل عام 2011 أيضاً وفقاً للمتابعات تطوراً لظاهرة ملفتة تتجلى في تحول نوعي في إقبال جيل الشباب على القراءة. كانت هذه الظاهرة قد بدأت في الحضور منذ ثلاثة أعوام بعد فترة من الزمن استطاعت فيها مؤسسات صناعة الترفيه الكبرى تكريس واقع افتراضي يقول إن الجيل الشاب لا يقرأ وأنه استعاض عن الكتاب بوسائل الاتصال والترفيه الإلكترونية. لكن ما أظهرته مواسم الكتاب خلال الأعوام الثلاثة الماضية هو أن شرائح الشباب قد استعادت علاقتها الحقيقية بالكتاب بطريقة ملفتة تجلت في أرقام قياسية في المبيعات والإقبال على معارض الكتب من قبل هذه الشريحة. هل يشير كل هذا إلى تحول حقيقي في ذائقة الناس في أوروبا؟! أم أن الأمر يتعلق ببساطة بهشاشة ذلك الوهم الذي يقول أن الإنسان المعاصر قد فقد الحاجة إلى الكتاب؟! لا يمكن بالطبع الإجابة على أسئلة كهذه بشكل مطلق، فالموضوع نسبي ويرتبط بعوامل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات. ففي مجتمعات متخلفة وأمية تتعثر فيها مشاريع التنمية الثقافية أمام الفقر والفساد السياسي والاقتصادي تتحول الثقافة إلى جبهة لمعركة غير متكافئة بين اقتصاديات الترفيه العملاقة المتحالفة مع الرأسمال المحلي الجاهل من جهة وبين مشاريع ثقافية تفتقد إلى المقومات المؤسساتية والاقتصادية من جهة أخرى. لكن واقع الكتاب وثقافة القراءة في أوروبا قد يفيد في تحديد أطر عامة لفهم آليات العمل الثقافي في البيئة الكونية المعاصرة التي نحن في دولنا المتخلفة جزء منها شئنا أم أبينا، وذلك بصرف النظر طبعاً عن طبيعة علاقتنا بتلك البيئة. والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه هنا: هل يجب الاستسلام لما نعتقد أنه حقائق توصف الواقع الثقافي بشكل مطلق ونهائي؟! لماذا يعزف الناس عن القراءة؟ هل يعود ذلك إلى خصائص جوهرية في الشخصية عندنا أم أنه يعود إلى تضافر عوامل موضوعية؟! لو وظفت الأموال والجهود والإمكانيات ذاتها التي وظفت في صناعة الترفيه والتلفزيون العربية في مجال التنمية الثقافية ألن تنكشف هشاشة الوهم الذي نتعامل معه جميعاً وكأنه حقيقة مطلقة، ذلك الوهم الذي يقول أن الإنسان لدينا يتسم بنفور أصيل من ثقافة القراءة؟! ذلك الإنسان الجاهل الذي يحتاج في شهر واحد فقط إلى 160 مسلسلاً درامياً، أي ما يقارب 4800 ساعة مشاهدة! ترى من صنع ذلك الإنسان المقيد إلى شاشة التلفزيون بقدرية تراجيدية سوى الإهمال المتعمد والمنهجي للثقافة في العالم العربي؟! |
|