تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إلى أين؟

ملحق ثقافي
2012/1/31
قصة: اسكندر نعمة:لم يكن يدري يوماً، أن حالة اليأسِ، ستحكمُ قبضتَها على روحه وأعصابه، وتسلمُه إلى ما هو عليه من الانفلاش والعبثية، وخيبة الأمل.

بين الحين والآخر، كانت لحظاتٌ من إشراقةِ الرؤية تضيء جوانبهُ، فيمني النفسَ بمستقبل مُؤَطر بالجمال والحب والرفاهية.‏‏

أرخى ثقلَهُ المتأرجحَ إلى أريكته التي تعلو سريرَه. الليلُ يدخل في إهاب نصفه الثاني، وهو ما يزال يلعقُ ذكريات مترنحة. ذكريات فيها الكثيرُ من الآمال الوردية، ولوحات ترسم آفاقَ حياة جادة ولكنها سعيدة. أين توارت تلك الأحلام؟ لِمَ تلاشت؟‏‏

أهكذا تتبخرُ في تلافيف الأيام وتزجه في خِضم عالَم سوداوي من خيبة الآمال وغبش الرؤية! انتصب السؤالُ في خبيئتِهِ مريراً. ترى. هل انتهى كل شيء؟ ماذا عليه أن يفعل؟‏‏

شرَخَهُ السؤالُ الصعب. لم يكن يملك جواباً. تقلب على سريره كطفل عاندهُ النوم. صر السريرُ العتيقُ تحت وطأةِ جسدِه المتوتر. لابَتْ نفسُه تبحثُ عن شيء. هومت عبرَ دهاليزَ مُعتمة متعرجة. لم تعثُر على أمل تقبضُ عليه. انتصبَ السؤالُ المتكررُ صارخاً: وماذا بعد؟ استسلم لبلاهَة واسترخاء أليمين. أفكارٌ مُبعثرةٌ طائشة تتراقصُ حولَه بهمجية، وترسمُ نهايات مُفزعة لا حدودَ لها، تخط في ثنايا روحه وتفكيرهِ كلمات بلا حروف، بلا معنى. تترُك الألَم يضغطُ صدرَهُ بلا رحمة، وترحل.. ترحلُ ليس بعيداً. سرعان ما تعاوده فتناوشه من جديد.‏‏

يستجدي كل ما حولَهُ ليخرجَ من دوائر الألم. يُغْمض عينيه في محاولة لاستجرار الاسترخاء. يسرِج خيل التذكر، وينساب مع ذكريات مضتْ. سقا اللهُ تلك الذكريات ما كان أجملها. كانت ذات يوم براقةً زاهية.. يراوده شعور بالكسل والخدر القلِق. يسترجِعُ مشاعرَ تلُف المرءَ حينما يشعرُ بالنعاس. سرعان ما تقفزُ روحُهُ وتتوتر، فيعودُ عن متابعة الذكريات. تنتصِب مشاعره ورؤاه من جديد. يتكور عبر ممر هُلامي ضيق. يقفُ أمامه الراهنُ عابساً، حاملاً تكشيرتَهُ المُبهمة. يكادُ يختنق. تتوترُ كل نأمة فيه، وينساق واهناً في دهاليزَ لا يدري مداها.‏‏

••‏‏

سنتان قاسيتان انقضتا وهو يطرقُ أبوابَ مديرية العمل والتوظيف. يأتيه الجوابُ سلبياً. ينفلِتُ من الصف الطويل المتدافع مقهوراً خائباً.‏‏

منذُ سنوات تخرجَ ظافرٌ في الجامعة، يحملُ في محفظتهِ شهادةَ الحقوق بتفوق، وفي ثنايا قلبه حباً يانعاً لزميلة الدراسة هيفاء. كان الحب بينهما مُتبادَلاً. عاصفاً حيناً، رصيناً في أحيان أخرى. بدأ هادئاً يحبو بنعومة واستحياء. نقشتْهُ الزمالة، وعمقتْهُ المواهب المشتركة. لكنه سرعان ما غدا عاصفاً تثيرُه أطيافٌ مُجنحة، وتحدوه آمالٌ مستقبلية.‏‏

سنتان قاسيتان وظافرٌ يتقلبُ على جمر الانتظار.. ذات مساء كان يقرأ في رواية للكاتب الكبير غارثيا ماركيز، عندما نبهتْهُ شاشة التلفزيون وهي تُعلن عن حاجة بعض وزارات الدولة إلى موظفين من حمَلةِ شهادة الحقوق.‏‏

طوى الكتاب جانباً. أوراقُهُ جاهزة. كل شيء مُعد سلَفاً. عمدَ إلى حقيبته، أخرج الأوراق والوثائق. تصفحها واحدة واحدة. أعاد ترتيبَها. ضمها إلى صدره. وراح يحلُم بالعمل. بالمستقبل. بهيفاء. أغمضَ عينيه وغاب مع أطياف من التداعيات المُبعثَرة. نصبَ عروشاً من الآمال والأحلام السعيدة. وراح يتماهى وهيفاءَ في رسم خطوط مستقبل سعيد.‏‏

ليلتَها قفز النوم من عينيه وأعصابه، وأخذ يدور في دوائر مُفْرغة حول جسده المُسْجى. كانت ليلتُه مزيجاً من أحلام اليقَظة وأحلام النوم القلقة. كانت هيفاءُ تهدهدُ أرَقَه، وتغرسُ في روحه حباً وأملاً عريضين.‏‏

أرسلَ النهار أصابعَه النديةَ لتعبثَ في عتمة الليل. شعر أن ساعة الجد قد حانت. غادر الفراش مدفوعاً بنوازعَ شتى. أعد نفسَهُ. شد قامتَه وأناقتَه، وراحَ يستعجلُ الزمن.‏‏

أمام مدخل مديرية العمل والتوظيف، وقف كالصنم ينتظر. أمامه كوةٌ مُغلقةٌ، يقبع خلفَها رجلٌ جلل الشيبُ سحنتَه. لم يكن أمامه إلا بضع أشخاص يقفون مثلَهُ كالأصنام. حانت منه التفاتةٌ إلى الوراء. صف مُتعرج يغص بالواقفين. كل واحد ينتظرُ دورَه. تعلو سحنتَهُ عيونٌ بلهاء، وفي يده رُزمةُ أوراق. ندت عنه آهةٌ عميقةٌ تحمل كل مآسي البطالة والاغتراب والزمن المُر. الأشيبُ المترهل يغوص في جوف كرسيه داخلَ الكُوة. يفصلُه عن القطار البشري المُترنح خارجاً لوحٌ زجاجي يعلوهُ الغبش، وقد استسلم لدخان سيجارة يمجها على مهل، وسيل من التداعيات المتشابكة التي تأخذُه بعيداً.‏‏

عندما أُزيحَ باب الكوة، ترنحَ الصف البشري المتعرج، وعبق الفضاءُ بلغَط محموم متداخل. لم ينتظر ظافر طويلاً. سرعان ما وجد نفسَه أمام الكوة في مواجهة ذلك الأشيب العابس الذي كان يأبى أن ينظرَ في الوجوه ويبتسم. قدم له أوراقَه بأناة، ورسم ابتسامة مصنوعةً على محياه. تصفحها الأشيب واحدةً واحدة، وأشار له بيده. قفز ظافرٌ جانباً. لملمَ أنفاسَه المحبوسةَ واستنشق الهواء عميقاً. قادتْه فرحتُه إلى حيث تعمل هيفاء، راح ينثر لها البُشرى ويضع مستقبلَها معه على ضفاف الأمل.. كان بينهما لقاءٌ حار وابتساماتٌ مُترفَة وقهوةٌ ساخنة، وتطلعاتٌ لا حصرَ لها.‏‏

أيامٌ طويلة.. أشهرٌ مريرة، تصارع فيها الأملُ والخيبة.. سنة.. سنتان.. الكوةُ ذاتُها.. الأشيبُ العابسُ ذاتُه، وقد تأبط كرشاً وترهلاً لم يكن ظافر يلحظُهُ سابقاً.. الجوابُ ذاتُه:‏‏

لم يأتِ دورُكَ بعد.‏‏

ومتى يأتي دوري؟‏‏

الله أعلم..‏‏

ينفلتُ ظافر من وراء الكوة مقهوراً، تهصُرُه نوازعُ الانفعال والخيبة. يلوبُ في الطرقات تائهاً من دون هدف.‏‏

انتعلَ أرصفةً تائهة. قادتهُ قدماهُ إلى حيث لا يدري. وقف. تلفت في كل الاتجاهات. أدرك في أية نقطة من المدينة الشاسعة هو. راودتْهُ نفسُه أن يلج أحد المقاهي. إلى مكان يستريحُ فيه. لم يكن سابقاً من رُواد المقاهي. إلا أنه يريدُ أن يستريح، أن يسترخي.‏‏

دلفَ إلى أقرب مقهى. مسح المكان بعينيه. لجأَ إلى زاوية مُنعزلة وهبط بجسدهِ إلى كرسي مركونة إلى طاولة صغيرة. أصدرتِ الطاولةُ صريراً تحت وطأَةِ مرفقيه المتوترين. تقوقعَ على ذاته وفنجان قهوة ساخنةً سوداء. هومَ مع أمواج خواطرَ تائهة مُتداخلة. أغمض عينيه وراح يحلم. توحدَ مع أحلام مؤجلة. استسلم لها. أيقظتْهُ حركة الشارع. أعادتْهُ إلى واقعهِ المُر. الشارعُ يغص بالأجساد المتراكضة المتزاحمة. تاهت نظراتُهُ وراء حركة الأجساد الأُنثوية التي تملأُ الأرصفة. زحامٌ لا عهدَ له به. غاب مع زحام الشارع وضجيجه. امتلأَتْ روحُهُ بتصورات ضبابية: الجامعة.. هيفاء.. البطالة.. الكوة.. الأشيَب.. الصف الطويل المتعرج.‏‏

تلجلجَتْ نفسُه بأسئلةً مُرهقَة. أهوَ الوحيدُ العاطلُ عن العمل؟ جاءَهُ الجواب سريعاً.. ما أكثرَهم! كلهم لم يأتِ دورُهم بعد. وخزتْهُ سخريةٌ مرة. حاول أن يبتسمَ. لم يستطع. كل شيء أصبح عصياً عليه. لم يتمكنِ الشارعُ ولا الأجسادُ الأنثويةُ المغرية، التي تنساحُ ملءَ الزوايا والأرصفة، أن تنتزعَ منه تجهثمَه. هاجمَهُ سؤالٌ متوحش: «ألا يُهاجر؟ ألا يتركُ كل شيء وراءَهُ ويمضي؟ ألا تُنْقذُهُ الهجرةُ مما هو فيه؟».‏‏

كان السؤالُ طاغياً، كأخطبوط يتلوى، برأس مُستدير، بلا عينين، بألفِ ذراع. تسمرَ السؤالُ في قلبه، دق إسفيناً صَدِئاً في حنجرتهِ ورئتيه. أسندَ رأسَه بين كفيه. بدت له الدنيا واسعةً رحبة. اعتصرَ رأسَه. ما أتفهَ تلك الكوة، وذاك الأشيب، ومديرية التوظيف، و»لم يأتِ دورُكَ بعد». أغمضَ عينيه وانساحَ في غمرةِ تساؤلات صعبة. الهجرة.. ولكن إلى أين؟ بلادُ الله واسعة. وهنا. والوطن. وهيفاء. والأهل. الغربةُ مُرة. لكن الفقرَ والبطالةَ في الوطن غربةٌ أقسى. وطني لم يأتِ فيه دوري بعد! ومتى سيأتي دوري؟ سأجدُه هناك. هناك كل شيء مُتاح، وكل شيء سهلٌ. قد ينتظرُني دوري هناك. لن أجد ذلك الأشيب المترهل. لن أقف أمام الكوة المشؤومة. الهجرةُ حياةٌ أخرى. لن يقول لي أحدٌ: «لم يأت دورُك بعد». الحياةُ لا تنتظر.‏‏

غطس في أتون من الرذاذ البارد يعلو جبينهُ وعنقَه وخديه. ترنحَ فوق كرسيه الخشبي. امتدت نظراتُه الزائغة لتمسحَ الشارعَ عبر جدار المقهى الزجاجي، لم يرَ إلا الغبش والدوائر المُتداخلة. صرخَ في أعماقه: لو تأتي هيفاء فتنقذَني من مرارة هذه التداعيات.‏‏

راح يدق بنعليه الواهنين أرصفةَ الشوارع، تمضغُهُ تداعيات محيرة وأسئلة بلا إجابات. عندما أغلق دونه باب غرفته، وأرخى بثقلِه المتأرجح على سريره، كان يحس بدوار يعتصرُه.‏‏

لم تأتِ إليه هيفاء.. إلا أنها انتصبت أمامه تحملُ ابتسامتَها العذبة، وقامتَها الرشيقة. مدت إليه يداً حنونة. لامستْ شعرَهُ وخديه. غرسَت عينيها في صفحة وجهه. همست:‏‏

ظافر.. ما بك.. لِمَ أنت هكذا؟‏‏

سأُهاجر..‏‏

إلى أين؟‏‏

لستُ أدري.. بلادُ الله واسعة.‏‏

ولكنها قد تكون ضيقة.‏‏

لن أجد من يقول لي: «لم يأتِ دورُكَ بعد».‏‏

وأنا؟‏‏

أنتِ.. أنتِ.. نُهاجرُ معاً.‏‏

أمجنونٌ أنت! أم أنكَ تهذي؟‏‏

لا.. إنني جاد. جاد جداً.. أريدُ أن أبحثَ عن نفسي. أن أجدَ دوري. الحياةُ قصيرةٌ لا تنتظرُ أحداً..‏‏

اتسعت ابتسامةُ هيفاء، وغرستْ عينيها أكثرَ في عيني ظافر. لملمت أناملَها، وهمستْ بكل حنان:‏‏

أما أنا.. فلن أهاجر.‏‏

صُعِقَ ظافر.. تخثرتِ الكلماتُ في حلقه.. تجمدَت نظراتُه.. تسمرَ في مكانه كجذع شجرة هرمة.. حاول أن يقول شيئاً، لكنه لم يستطع.‏‏

بكل هدوء تراجعت هيفاء. أشارت له بأناملها وعينيها مودعةً. انسحبتْ وأغلقَت الباب دونها، وتوارت.‏‏

ألفى نفسه وحيداً مع ذاته المأزومة، وتداعياته المرة، وتصوراته المُتداخلة. أجهد نفسه لاسترجاع طيف هيفاء، لكنه أخفق. كالذئب الجريح أخذ يلوبُ في أنحاء غرفته. استندَ بمرفقيه إلى قاع النافذة واسترسل. مدّ ناظريه إلى آفاق بعيدة. كانت المدينةُ الشاسعةُ المتراميةُ الأطراف، تسترخي في أحضان الطبيعة هادئةً مطمئنة. أدام النظر، حدق في كل الاتجاهات. مضغَ أفكاراً مبعثرةً قاسية. رفّ بجفنيه مراراً. أزال كثيراً من رواسب غبش الرؤية. بدت له المدينة جميلةً.. أغمضَ عينيه، لاحت له أكثر جمالاً.. لم يرَ ذاك الأشيبَ المترهل. ولا تلك الكوة اللعينة. ولا ذلك الصف الثعباني الملتوي.. لاحت له هيفاء، تهدهدُ صحوتَه، وتمنحُه ابتسامتَها الجذابة، وهمساتها المُترفة.‏‏

كشجرة حوْر باسقة، انتصبَ في خاطره سؤالٌ كبير:‏‏

- ترى.. هل أن تلك الكوة، هي النافذةُ الوحيدةُ إلى دروب الحياة؟‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية