|
ملحق ثقافي ولكن وبعد أن ولجت فصولها الرّحبة على زحمتها، وآليت على نفسي متابعة أبناء جيلي، لأتعرّف على مواهبهم وبالتّالي اجتثاث ما أمكن من الفائدة، اكتشفت أنّني ضمن آلاف الموهوبين الذين يقتاتون من أحطابها ما يدرؤون به برد الأيام وثقلها على إحساسهم الرقيق. وكنت آنئذ كمن يقف على حافة شلال أو صخرة يريد الموت ويخافه في آن واحد، إلى أن تتغلّب إحدى الإرادتين وغالباً تحرز الأولى الحظ الأوفر بتكاثف عدّة مشاعر متناقضة في اللاوعي موشّاة بكآبة مفرطة، وانقياد كامل لها وأسر لكل جوارحه. وها أنذا أغوص في بحرها معلنة موتي الكلي في نهايتها، وتوق خيالي لتحقيق أسمى أهدافها وهي المتعة والفائدة معاً.
إلى أن جاء ذلك اليوم الذي خرجتَ فيه من دفاتري. حاولت إقصاءك في لاءات شتى عبثاً، ففي قمّة اتقاد عواطفي.. هويت بطريقة رثة موجعة، ومثيرة لشفقة أيّ كان. ولم أعلم السبب وسألت نفسي مراراً: تراه الجدب المخيّم على ثواني حياتي مع الصّبر الشّحيح في متابعة طريقي لوحدي.. آه.. كم يصعب اختيارنا لصحته أو لاستقامته، وكبيرة نسبة الخطأ فيه وبالتالي اعوجاجه. أم أنّها الرّغبة الغريزيّة الملحاحة في تشفٍّ دائم من تهورنا في لحظة اشتعالها وتلمس لظاها الذي تحرق حرارته أجنحة حسبناها لوهلة أجنحة حرية، وعندما تتساقط قصاصات على أرض تطؤها أقدامنا وأخرى، فتمّحي بلحظة ملامحها وحينها وحسب نكتشف أنها لا تملك أي وشيجة قربى بالحرية المزيفة تلك، إثر نهاية تحصيل شبه علمي في المرحلة الثانوية، ولكم حسدت الأرض تحت نعال الذكور في مدرستي.. وقريتي وفي الشّارع.. على أبواب الحرية التي تفتحها أمامهم عريضة ذكورتهم على عالم سيطر حلم اكتشاف غياهبه إلى ما بعد سني مراهقتي. ابتعدت كثيراً عنك...أليس كذلك؟!!! لا.. لا.. مخطئ أنت، فأنا أتجوّل في شوارعك الآن، وقد دخلت باب مدينتك الأكبر.. لكن وعذراً.. ودائماً تغفر لي فقد نسيت العنوان، وتذكر حقاً مشكلتي مع عناوين أيامي إذ كلّما حاولت إعطاء شيء ذخيرة الظّهور على مساحة تفكيري أفشل، وتعلم أنك أنت من أرجعت السبب إلى العناوين الضخمة واللماعة التي جذبتني، ثم تركتني ألهث ضياعاً في قعرها ودون أن أدلي دلوي في ذاك القاع.. فأنسى تماماً من أين جئت أو كيف بدأت مثل الآن؟ وأما عندما بدأت الكتابة وأصبحت أرسم حياتي بكلمات مذهبة على صفحات دفاتري نقشتها قرأني البعض ظلماً.. طبعاً، وأنا الأنثى الضعيفة التي تنفق أيام عمرها وهي تطالب بتحررها وأعلم أن الكثيرين يقولون الآن لقد أخذتموها وزيادة، ليست الحرية بمفهومها الخاطئ فلكم أحب الانطواء تحت راية رجل حقيقي ليس ككلّ الرجال يكلؤني ليلاً وينير لي دربي نهاراً. ويظنّ النّاس أنّ الكتابة واقع بحت وآخرون خيال بحت، فأنا أخبرهم أنها وشيج بين الاثنين، وانطلقت أرتل في قصصي بعضاً من خشوعنا وأوشيه بقالب خيالي.. سبغها بطابع الهام والشيق حسب حكمي الشخصي عليها، فجاءتني أولى الردود كسهم أطلق في أحشائي فمزقها وهو: قبل زواجك أو بعده هذه القصة.. من تقصدين إياك أن يكون زوجي. كيف يقبل زوجك أن تتحدثي عن غيره بهذا الهيام. بصراحة وددت لو أشرح لهم أنه بعض منك أنت زوجي، إن لم أجار غمزاتهم فتظنني خائفة وأقول هذا كله منك ومنهم، وهم كثر.. إخوتي.. أقربائي.. النّاس.. وممّن دخلوا حياتي عنوة قبلك فما احتلّت أطماعهم شيئاً ممّا ملكت. مساكين هم.. لم يعلموا بعد أنك تدخل وتخرج بعد زواجنا في كلّ كلمة، وكفاصلة تتبعني بينها وتشجّع فيّ هاجسي بها، لكنّني اليوم خذلتك إثر آخر تعليق ورد على لسان أحد المقربين حيث سألني: من الذي مات في قصتك الجديدة أهو زوجك لكنّه لم يمت بعد؟! بصراحة لتجربتي المرّة مع الموت قصة. فلشدة ما آلمني رحيل أمي المفاجئ احتلّ الموت الخاتمة المكرّرة لقصصي هذا فقط لا غير. أمسكت القلم بتأنّ، وأغلقت عليه غطاءه ودفنته داخل الدفتر وبكلّ ظلم أنثى بكيت وغسلت عارهما الذي لم يتلوّث بعد.. وتركتهما للنار في المدفأة تلتهم ما كتبته منذ سنوات وحتى الآن، إذ ظننت نفسي أنعم بحرية الذكور في القرن الواحد والعشرين وبعد هذا القرار المجحف بحق موهبتي تلك، وحق تعب زوجي ومواكبته لي، تحولت أسئلتهم إلى شكل آخر من اللوم: لماذا تركت الكتابة وتخليت عن حلمك؟ لقد كانت كتاباتك رائعة وخيالك خصب. فانتفضت الكلمات في جوفي وتنبهت من ضعفي، أعدت القلم المحترق أغلبه وأشباه الورق.. وبحطامي بدأت قصتي الجديدة.. وعنوانها: "وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت". |
|