تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ماريو بارغاس يوسا ...العلاج في الصيدلية الأدبية

ملحق ثقافي
2012/1/31
ترجمة: دلال إبراهيم: الأدب في نظر الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا بمثابة صيدلية فيها الشفاء للعديد من الأمراض. ولذلك فهو يطلق عليه

تسمية «الصيدلية الأدبية». فيه العلاج وفيه المسكن وفيه العزاء. وحتى إنه في مرات عديدة يدمل جروحاً عميقة. أي أنه يجمع معاً الفكر والعلاج.‏

ويطلق صاحب جائزة نوبل ضحكة عميقة عندما نسأله: هل يدخل هذا الحكم من جانبك على الأدب من باب الأحكام المجردة فقط؟ حينها يحكي ماريو بارغاس يوسا كيف توصل بشكل ملموس إلى فكرة «الكتاب- الطبيب» تلك. بدأت الحادثة منذ بضعة سنين، خلال رحلة له قام بها بين مدينتي بيونس ايرس ومدريد. وفي مطار ازيزا اشترى يوسا كتاب «مملكة العالم» للروائي أليخو كاربانتييه. ولما كان الروائي يوسا يعاني في ذلك الحين من مرض مزمن وهو الخوف من الطائرة وتصبب العرق منه وكان مضطراً في ذلك الحين إلى الصعود والنزول وتبديل الطائرات مثلما يبدل الشخص قميصه، ولا شيء يمكن أن يبدد هذا الخوف ويوقف هذه المعاناة سواء أكان بتناول مشروب الويسكي أو أدوية تسكين القلق أو الحبوب المنومة، فقد استطاع الكاتب كاربانتييه خلال تلك الرحلة بشكل عجيب، ودون أن يدري تزويده بجرعة حثت مخيلته وجعلته لا يشعر أنه في الطائرة إلى أن هبط منها.‏

وفي كتابه «L Herne» لعام 2009 حول كيفية تغلبه على عامل الخوف من الطائرة يتحدث بارغاس يوسا أنه صار وخلال كل رحلة يحمل معه مكتبة متنقلة، تحتوي على كتاب للروائي فولكنر مخصص للرحلات الطويلة وكتاب لستيفنسون مخصص للرحلات القصيرة المسافات. «مع تلك الجرعات الشافية، بدأت أشعر بمفعولها مباشرة، دون أن تترك أي آثار جانبية أو آثار غير مرغوبة».‏

وهذا يقود إلى نتيجة تؤكد أن تشرب الأدب يؤثر فينا، ليس على فكرنا وعقلنا فحسب، وإنما يؤثر أيضاً وعلى نحو غريب على أجسادنا. إذ مع انكبابنا على مطالعة النتاج الفكري ننتهي من مشكلة تعرق اليدين وضربات القلب المتسرعة، على الرغم من المشاعر الجيدة التي تسكننا «الاختصاصيون في علم الأعصاب وفي كيمياء الأحاسيس والمشاعر بالذات يدرسون الآن هذا الفعل والتأثير غير المتوقع للأدب». وحقيقة فإن سحر النص الأدبي على القارئ ليس بالجديد بالنسبة إلى بارغاس يوسا، وقد اكتشفه منذ أن كان في الخامسة من عمره عندما حدثت لديه صدمة القراءة. كان ذلك في عام 1941. كما يرويها بلسانه، في مدينة كوشوبامبا في بوليفيا خلال مرحلة الدراسة «وكان هذا الحدث هو الأهم في حياتي». وهو يروي كيف استغرق في قراءة رواية البؤساء لفيكتور هيغو. وقد شعر جسدياً بثقل الشخصيات «تقمصت شخصية جان فالجان. حملت على ظهري داخل سراديب باريس جسد ماريوس الهامد».‏

نعم لقد عرف يوسا واختبر الآثار العجيبة للأدب على الحالة النفسية للشخص طيلة سنين عمره. وها هو عندما حصل على جائزة نوبل في الأدب، وكان في الخامسة والسبعين من عمره، ينوه بصراحة خلال كتابته الكلمة التي ألقاها في حفل تسلمه الجائزة إلى تلك الحقيقة. فقد تضمنت كلمته المنشورة لدى بعض دور النشر، كلمات ثناء مؤثرة محاطة بهالة طفولية مدهشة لمسألة القراءة والخيال «القراءة تبدد الفوضى، تجمل القبح، تطيل اللحظة وتجعل من الموت مجرد مشهداً». ويتابع قائلاً: «كانت تقول لي والدتي دائماً إن أول الأشياء التي كتبتها كانت عبارة عن تتمة لحكايات كنت قد قرأتها، لأنه كان يحزنني أن تنتهي هذه الرواية أو كنت أبغي أن أصحح النهاية».‏

وهذا يعني ضمن هذا السياق أن الأدب سواء الذي نقرأه أو الأدب الذي ننتجه يقدم لنا فائدة، فهو يستطيع أن يضع العالم ضمن مربع عندما يكون هناك خطأ. ويعطي يوسا مثالاً آخر يستقيه من حكايته الشخصية الخاصة، يقول: «في المدرسة العسكرية في ليونيكو برادو في ليما العاصمة البيروفية، كنت حينها عبارة عن فتى ورع، متألم من أب قاسي وعنيف، ظهر فجأة في يوم ما في وقت اعتقدنا أنه مات. والمسكين ماريو كان حينها يعاني المنغصات القاسية والمضايقات من زملاء الدراسة، ومن أجل معالجة نفسي من حالة الاكتئاب التي كنت أعيشها، عمدت إلى كتابة قصائد غزلية. وفيما بعد، وفي أحد الأيام صرت أكتب رسائل حب للأصدقاء الذين يقاسمونني الغرفة، لأولئك الذين لا يعرفون ماذا يقولون لصديقاتهم أو يحتارون ويرتبكون في التعبير عن مشاعرهم وعواطفهم. وقد وفرت لي هذه المهمة بعض الربح المالي الآني». وبشكل خاص، كما يشير مترجمه الخاص ألبير بنسوسان في كتابه «ما أعرفه عن بارغاس يوسا» «زودته هذه المهمة بوضع خاص يؤهله ككاتب وكناطق بلسان. وهي مهمة منذ ذلك الوقت لم تبارحه».‏

منذ صدور مجموعته الأولى من القصص القصيرة عام 1959 لغاية روايته – حفلة التيس – التي تحكي اللحظات الأخيرة من حياة ديكتاتور تروخيلو أو رواية الفردوس حول فلورا تريستان، ما زال بارغاس يوسا يعري جراح العالم ويشجع الناس على الشفاء منها عبر المقاومة وعدم الامتثال والتمرد. وفي روايته «حلم السيلت» يرسم يوسا صورة لويلات الاستغلال البشري، من خلال حكاية حقيقية للإيرلندي روجر كاسيما الذي كان من الأوائل الذين نددوا بالوحشية التي مارسها ليوبولد الثاني في الكونغو، وأيضاً العنف الممارس ضد الملونين في البيرو.‏

وعندما نسأل يوسا عن سبب اختياره هذه الشخصية، يرد الكاتب قائلاً: «اكتشفته عندما كنت أقرأ السيرة الذاتية لكونار الذي أكن له إعجاباً. فتح كاسيما العيون على كونار عندما زار هذا الأخير الكونغو. وكان شخصاً مهماً في كتاب «في قلب الظلمات». ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد، عند قراءة الرواية، أبرز يوسا هذه الجملة التي استخدمها الروائي خوسيه انريك رودو «كل واحد منا هو بدوره ليس فرداً وإنما مجموعة. وتلك الشخصيات المتتالية، المنبثقة الواحدة من الأخرى تظهر، في الغالب، التباينات الأكثر غرابة ودهشة».‏

ويعترف بارغاس يوسا بفرح أنه يبدو أن كاسيما هو من كتب تلك الجملة. أما من هو كاسيما، يقول: إنه شكل من الدكتور جيكيل والسيد هايد المدافع عن الوحشية الاستعمارية، ولكنه يعيش في الظل حياة خاصة تثير الصدمة في إطار الأخلاق الفيكتورية، والذي تم اعتقاله في نهاية المطاف وحكم عليه بالموت شنقاً.‏

وهذا التباين هو ما أدهش الكاتب بارغاس يوسا. وبشكل عام فإن التعقيدات هي أحد الجوانب التي تتميز بها الظروف البشرية التي نقبل بها على مضض. نحن نخلق أبطالاً بهيئة نمطية مصانة ونصدقها. وكاسيما هو في آن معاً بطل وضعيف. طوال حياته كان عليه أن يعيش وسط توتر رهيب، حياة العملاء السريين، وحياة مجرمين كبار وحياة قديسين. ومن ثم يشير ايوسا «ذهبت إلى الكونغو التي شهدت صراعاً استمر عشرين عاماً حيث نسيها ونسي اسم كاسيما تقريباً الجميع هناك. ونفس الأمر في الأمازون حيث شارع صغير فقط يحمل وللأسف اسمه».‏

تشترك كلمة الثناء للقراءة التي ألقاها في حفل تسلمه جائزة نوبل ورواية حلم سيلت في قاسم مشترك. الاثنان يتكلمان عن حضارتنا. يكشفان لنا إلى أي درجة حضارتنا تلك هشة وضعيفة، ويمكن أن تفرغ من مضمونها. ويقولون لنا إن الإنسانية والوحشية هما كما النور والظلمة لدى كاسيما، يتداخلان مع بعضهما البعض بحيث لا يمكن لأحدهما أن يسير دون الآخر.‏

وإن كان ذلك يثير الخوف، يعرض علينا الكاتب بارغاس يوسا الدواء: ابحثوا في مكتباتكم، كما تبحثون عن دواء في خزانتكم. هنا ستجدون المسكن لكم.‏

عن صحيفة لوموند‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية