|
ملحق ثقافي وما أكثر هذه الأزمنة بحكم خيارات تركيا وتطلعها دائماً إلى أوروبا، وانتسابها إلى حلف الناتو الذي يتعارض مع خيارات سوريا الممانعة. وإذا كان السياسي يحرك أوراق التاريخ كما يريد ويرتبها حسب مصلحته، فإن المثقفين والأدباء هم كتاب التاريخ الحقيقي للشعوب، بعيداً عن اللعب مع التاريخ على أنه ورقة انتخابية، أو من أجل كسب نقاط لا أكثر.
فالثقافة رسالة ومسؤولية أخلاقية لأن المثقف قائد فكر وقائد رأي، وبالتالي يتمتع بالقيادة الاجتماعية للمجتمع، وهذه القيادة ليست آنية، بل هي مستمرة مع الزمن، لأنه يعمل على الذاكرة الجمعية والحضارية وعلى الوعي ويقدر أن يشوه ويغير تلك الذاكرة بحكم تأثيره على مجتمعه وبحكم حساسيته وشفافيته ومقدرته على الإقناع والتجييش لصالح الحق والحقيقة، خاصة أن للكلمة مقدرة عالية على حمل منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية. وإذ تزول العروش تبقى الكلمة على عرش الزمان تفتح أبواب المدن ونوافذ الضوء عند الشعوب وتتواصل برغم السياسة التي قد توصد الأبواب وتقطع الروابط المتجذرة بين الشعوب تبعاً للأهواء السياسية؛ فتصبح مثل تلك السياسات عرجاء وتتحرك بعكس إرادة الشعوب والوجدان الجمعي. من هنا وعلى الدوام كان التحدي التاريخي والثقافي والجغرافي والسياسي «لمثقفي البلدين سوريا وتركيا» للتواصل فكرياً وإبداعياً، عبر نتاج الأدباء والمفكرين الأتراك، الذي يصل إلى المثقفين والأدباء في سوريا. ثم ينتقل إلى عامة الشعب والعكس صحيح، ما أدى إلى خلق تفاعل وتناغم بين الأدباء في البلدين، وبالتالي ساعد على تبني القضايا الإنسانية والفكرية والجمالية المشتركة. وهنا تحضرني أسماء كثيرة لأدباء تركيا المرموقين الذين نتسابق للاطلاع على نتاجهم لقناعتنا بأنه يشبهنا ونحن نشبههم. لكني أتذكر شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت الذي تفاعلت مع أدبه وخاصة عندما قرأت قصائده لحبيبته منور وهو في سجنه المظلم. لكني ما لبثت أن غضبت منه وعليه لأنه أحب غيرها، فعاقبته بمقال نشرته في الصحف، وكأني أعاتب أدونيس أو حنا مينه. إن المثقفين عشيرة واحدة، يسكنون متجاورين في بيوت الكلمة التي لها مصلحة خلق المحبة والتسامح واستنهاض القيم وتعزيز العلاقة بين الشعوب، وتحول البلدان إلى قرية واحدة تتشارك عبر الفكر والأدب هموم الإنسان ومشاعره وتطلعاته نحو الحرية والمحبة والسلام بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجغرافيا. هذا هو فضاء المثقف، لا فصله اللغة ولا الأزمنة.. على عكس فضاءات السياسي التي تنحصر بارتباطات سطحية لا تعبر بالضرورة عن ضمير وقناعات الشعوب ولا عن بنيتها الأخلاقية.
وإذ يقود بعض السياسيين شعوبهم إلى الحروب كما يفعل الآن السيد رجب أردوغان، فعلى المثقفين أن يقودوا شعوبهم إلى التلاقي والتعارف وخلق ثقافة التسامح ونبذ ثقافة الكراهية والدم، لأنه في الحروب قد يربح السياسي ولكن الشعوب هي الخاسرة دوماً، لأنها هي التي تدفع الثمن. وإذا يغلق السياسي الحدود، فإن المثقف قادر على فتح هذه الحدود، لأنه يمتلك سلاح الكلمة التي ترفض الجسور المفخخة والمناطق المسورة بالدم والظلم، ولا تقبل الانجرار إلى مصطلحات براقة في ظاهرها وهدامة في جوهرها، مثل مصطلح «الربيع العربي» الذي يروج له الغرب المعادي لكل ربيع يطال غير شعوبهم. إن هذا الربيع ما هو إلا الفوضى والتصحر العربي، لأنه يروج للفكر التكفيري السلفي وللطائفية الدموية.. ولا أظن أن حقيقة هذا الربيع تغيب عن المثقف السوري والتركي وعن أسس منهجه وتفكيره الإنساني والأخلاقي. هذه الأسس هي التي دفعت بالمثقفين الأتراك لزيارة سوريا وللوقوف معها في محنتها. وهذا ليس مستغرباً عن الأخوة الأتراك الذين بادروا دائماً للتعبير عن محبتهم وتضامنهم. ففي الصراع العربي – الإسرائيلي كان الأدباء والمثقفون الأتراك إلى جانب العرب داعمين للحق العربي الفلسطيني، في حين كان السياسيون الأتراك في اتجاه آخر يراوغون. وإذا كان لا بد من التذكير ببديهيات العلاقة والروابط التي تجمع بين الشعبين السوري والتركي، فإنها أكثر من أن تحصى؛ حيث بيننا وشائج قربى ووشائج جغرافية وتاريخ متشابك وتقاليد وعادات وقيم مشتركة.. وبيننا الأقصى والقدس والتوجه إلى القبلة وسفينة نوح وقبة الصخرة.. والفهم المشترك لمكونات وخصوصية الشعبين. ولدينا العدو المشترك.. الصهاينة والغرب المتغطرس الذي يصف شعوبنا العربية والإسلامية بالهمجية والإرهاب والتخلف. عندما حدث التقارب السوري التركي، لم يكن تقارباً آنياً انفعالياً، بل كان نتيجة طبيعية لعلاقات تاريخية بين الشعبين واستجابة للروابط المشتركة المتعالية على جراح التنابذ والفرقة. وهذا عهدنا بهم وأملنا منهم. لذلك.. المثقفون السوريون والأتراك مطالبون اليوم بتعزيز هذه العلاقات المشتركة والروابط وإيقاظ المشاعر الأخوية والإنسانية ومواجهة محاولات تفجير العلاقة أو نسف الروابط التي أعيد بناؤها في المرحلة الماضية، ويصعب على الجميع هدمها. إن دورنا هام كمثقفين لنا هموم مشتركة تجاه بلدينا وتجاه الإنسانية وتجاه الحقيقة. وهذا الدور هو الذي يضمن استمرار الأخوة وتجذرها وتجاوز غيوم المرحلة الراهنة. ولن أغالي إذا قلت بأن المثقفين الأتراك أكدوا في الماضي ويؤكدون اليوم ضرورة الوقوف مع سوريا للحفاظ عليها موحدة سيدة قادرة على مواجهة التحدي الغربي الصهيوني، وهم يدركون أبعاد ومخاطر تلك الحرب الشرسة الصهيو– أمريكية على سوريا وعلى المنطقة كلها بما فيها تركيا. ولنا في ليبيا درس لن ننساه حتى ينسى الرمل دم الليبيين. وإذ نقدر عالياً هذه الوقفة لإخوتنا المساندين لنا. إن أخوتنا في تركيا يدركون أن أي تصدع على الساحة السورية سيكون خطراً على الساحة التركية وعلى دول المنطقة بأجمعها، لأن الجميع مستهدفون بالمشروع الأمريكي الصهيوني. وهنا، لا بد من أن نحيي أصحاب مبادرة اللقاء التي جمعت مثقفين من سوريا وتركيا للاطلاع والبحث والتوكيد على تعميق العلاقة بين الشعبين والبلدين. وهذا الحراك الكبير للمثقفين هو اعتراف بدور المثقف وفضله ومسؤوليته في زمن العواصف والزيف والتلفيق واختلاط الصورة بين القاتل والمقتول، بين الظالم والمظلوم.. ولا أظن أن أخوتنا في تركيا إلا مدركين لما يحاك لنا من مؤامرات وعدوان، يفتح شهية الطغاة لاستعمار الشعوب وتقويض السلام وكسر شوكة المقاومة. مع ذلك أنا شديدة التفاؤل بالكلمة التي تشعل ضوءاً وترفع مشكاة في وجه الظلم والظلام. ولا أظن أن المثقف التركي الشريف يقبل بأن تغتصب النساء السوريات في مخيمات أردوغان التركية، ولا أن يذبح الشعب السوري بسكين الطائفية. وأنا متأكدة بأن الأحرار في تركيا يرفضون أن يشربوا مياه العاصي التي فاضت بدم السوريين. ونحن كمثقفين سوريين نقول ونؤكد من أنقرة أننا لن نقبل أن تتقسم سوريا إلى دويلات ولن نهادن في مسألة السيادة والحرية والممانعة. وإذا كان الشرفاء من وطني يدفعون أرواحهم في سبيل عزة سوريا، فنحن كمثقفين لسنا بأقل منهم وطنية وسندفع بكلمتنا وأرواحنا من أجل سوريا حرة موحدة سيدة على أرضها وسيدة بقرارها الوطني. إننا معاً مستهدفون بعدو واحد هو أمريكا والصهيونية، ومعاً يجب أن نقف ونواجه ثقافة الكراهية والفرقة والتناحر والتطرف التي لا تخدم إلا أعداءنا.. أعداء الحق والإنسانية والسلام. وفي النهاية وقبل أن أختم، أناشد الشعب التركي وأخص المثقفين أن يتفهموا حقيقة ما يجري في بلدي، وأن نتعاون سوية للحفاظ على العلاقة الأخوية بين الشعبين اللذين جمعهما الله أرضاً وتاريخاً وقيماً ومن يجمعه الله لا يفرقه الإنسان.. كما أنني متأكدة بأنكم لا تقبلون أن يذبح السوريون بسكاكين الغرب تحت شعارات كاذبة وإعلام كاذب يشوه الإنسان السوري ويزيف الحقيقة لغايات أهمها إضعاف الشعوب المقاومة وضياع الهوية الوطنية في أتون الهوية الطائفية والإثنية والعشائرية. ولقد عودنا الأخوة الأتراك الوقوف إلى جانب القضايا العادلة. ونحن نأمل اليوم في وقفتكم. ولهذا نحن هنا في أنقرة.. لكم شكري وتحيتي.. والسلام عليكم. |
|