|
شؤون سياسية ومادام هو هدف كل تغيير ووسيلة كل فاعلية فإنه لا يترك في الساحة الخواء تهب عليه الرياح العاتية من كل اتجاه وتنتابه العواصف المشؤومة من كل صوب, ثم نكتشف على حين غرة أن الانسان قد استسلم للأمر الواقع أو سلم بما هو قائم باعتباره قدراً مقدوراً. إن الحالة هذه توصلنا إلى استنتاج صعب للغاية مضمونه أن الانسان بنية محجوزة ضئيلة الأبعاد وأنه تحت لحظة الاضطرار يختار أي مرجعية وأي مكمن مجهول ينتمي إليه ويرتبط بأجوائه لأنه فقد البدائل والخيارات وهناك من استغل اللحظة وأوقعه في الشرك المؤذي والسام, لعلنا أكيدون هنا بأنه حينما لا نتفاعل بالإنسان ومعه على قواعد ومنهج واضح المعالم سوف يفر من المنطقة الإيجابية ليلوذ بأكناف أية زاوية ضيقة, بل يحدث أحياناً أن يرتد الإنسان على جذره الإيجابي ويتعاطى معه بسلبية ترد على سلبية الإهمال والمزاودة التي حدثت على الإنسان نفسه, ولهذا السبب يوصف الإنسان بأنه منطلق وهدف ووسيلة لبناء الطريق بين المنطلق والهدف, وأما الحدث السياسي فهو الصيغة المؤسسة لأي نشاط عام في المجتمع والدولة, ليس باعتباره خلاصة فعل ووعي واختيار وإنما لكونه المعادل الأكثر موضوعية لكل ما هو قائم في حياتنا. إن أية تجربة في الحياة العامة لانستطيع الاستدلال على حدودها الحقة ومدى مشروعيتها ومستوى تأثيرها إلا من خلال الحدث السياسي الذي يفرض نفسه علناً كلحظة استحقاق يجتمع فيها وإليها كل أبعاد المرحلة الماضية ثم يفرض الحدث السياسي نفسه كمنطقة صعود طبيعية لمدى مقبل ولتفاعل أعلى, لذلك نجد أن اتجاهات الإدارة والديمقراطية والاقتصاد والثقافة والأدب والإعلام وتنظيم المجتمع واتجاهات أخرى كثيرة كلها تصب في النهاية في مفهوم الحدث السياسي لتقدم طبيعة فاعليتها ولتعطينا الانكشاف الكامل لمجمل الظروف والأحوال التي أنتجت الحدث السياسي نفسه, ونحن معنيون الآن بالتقاط الفكرة اللماحة قبل أن تغادرنا وهي القائمة في لحظة اندماج الإنسان بالحدث السياسي نفسه. لأن الخشية والحذر ضروريان لردع تلك النوايا والإدعاءات التي تقصي الإنسان وتتجاوز الحدث ثم تبدأ بطرح معالمها ومقاصدها بطريقة (النبوغ المفاجئ) عبر موعد للالهام والوحي الذي لا يأتي من السماء هذه المرة وإنما يصدر عن نفسية مخترقة وعقل مطفأ وغرائز مستبدة وجيوب واسعة لأي ذهب أو دولار قادم إليها, إن المهمة مزدوجة هنا لمنع ذلك وأساس هذه المهمة هو امتداد الإنسان في الحدث السياسي وانتساب الحدث السياسي للإنسان نفسه, وضرورة متابعة التفاعلات القائمة بين طرفي المعادلة بحيث نسأل عن واقع الإنسان بقدر ما نسأل عن الواقعة السياسية في حياة الإنسان, ونرى من الضروري أن نلتقط أفكاراً ثلاثاً تنتمي لنسق كبير غير محدود من الأفكار التي تضيء جوانب العلاقة بين الإنسان والحدث السياسي. أما الفكرة الأولى فهي حالة الفاعلية في الإنسان كما في الحدث نفسه, لابد من متابعة المفاعيل والتحولات القائمة, ولابد من رصد إيقاع الحركة والامتداد بذلك إلى تقويم مدى الحراك السياسي والاجتماعي, إن الفاعلية هي وعي الإنسان بالتطبيق وقدرة الخيار السياسي على الاستجابة لطموحات الإنسان نفسه, والفاعلية لا يمكن احتسابها في خانة الشعارات وقائمة الأحوال العاطفية الصارخة, ولا علاقة لها بالكم البشري والشكل الاجتماعي المعروف والمتداول, إن الفاعلية باعتبارها قاعدة الضبط والربط بين الإنسان والحدث هي فكر وأفكار ومنهج وبرامج عمل وتحولات وإضافات قابلة للقياس ونتائج حيوية ملموسة ومعاشة في صلب الحياة نفسها, وواضح تماماً أن مفهوم الفاعلية هو البند الأصعب لأنه في واقعنا يعاني من تسلل الانحراف المقصود له ومن المحاولات التي لا تتوقف عن إغراقه تحت أكوام الشكل والكم والشعارات الصارخة والنزعات الاحتفالية الباهرة. والفكرة الثانية التي تنتظم وحدة الإنسان والحدث هي القائمة في التجدد الدائم أو ما يسمى بعلم السياسة بإنتاج الظاهرة وإعادة إنتاجها مع كل موسم, والتجدد هذا يستند إلى حقيقة مركزية في الإنسان من حيث هو طاقة ووعي ونزوع حول الأفضل ورفض لمنطقة القيد والسكون وممارسة للذات لابد أن تكون محكومة بالخيار الأصفى والإيقاع الأسرع, وكما عامل التجدد هو في الإنسان كذلك نرى مرتسمات هذا العامل في الحدث السياسي نفسه. إن نزعة التكرار والاجترار وهي تحدث عادة بفعل فاعل سوف تفترس وجود الإنسان وتفسد حدثه في لحظة واحدة, إن هذه النزعة وهي مستبدة آسرة تتميز بكونها الخيار السهل والالزامي للمدعين والفارغين والباحثين عن النصر المعلب والتفوق الجاهز الذي يتجاوز الشروط الطبيعية في حياة الإنسان ومنطق الحدث السياسي نفسه, من هنا كان التجدد يساوي الحيوية ويشتمل على المراجعة وإعادة النظر والنقد الدائم, إن السكون خصم لدود للتجدد والتكرار فرصة لتناثر الإنسان تمهيداً لاندثاره, والاجترار حالة مرضية لابد من أن يعرض صاحبها وقواها على الطب النفسي والطب السياسي دون تأخير. وأما الفكرة الثالثة في منسوب وحدة الإنسان والحدث فهي قائمة في متابعة خصوبة الناتج على أرض الواقع مباشرة و في المساحة الوطنية والقومية والعالمية, أي لابد من الناتج العياني الذي يحدث التغيير في الواقع نفسه ويتحول إلى مسارات وقنوات وإلى مواقف وقرارات ويؤول إلى صيغ حية تنعكس في حياة الفرد وفي حياة المجموع معاً, إن النوع الآخر من الأعداء لهذه المسألة يتمثل في الادعاء, ولاسيما حينما يصدرهذا الإدعاء عن قوة حاكمة ومستحكمة, و يتمثل في النزوع نحو آلية الفرض والاستبداد وكلما تراجعت الفاعلية أوانعدمت تقدم هذا النسق من الأعداء وتهيأت الظروف للاستبداد بالرأي وظهور النزعة الديكتاتورية وهذا ملحظ خطر للغاية لأن من يملك القرار أوالمال لن يكون بمقدوره أن يكون عادلاً أو ديمقراطياً إلا بطريقة التمرد والعودة من الظلام إلى النور, أما إذا ترك وشأنه والواقع خاوٍ وثاوٍ فإن الرياح المسمومة جاهزة لتملأ الفراغ في المكان ولتفرضه على الإنسان. الآن وبعد هذه المقدمة الطويلة والشاردة ظاهرياً سوف يأتي من يقول بأن هذا الطرح الفكري مريض بالمثالية من جهة وهو ليس من صفات الأنظمة السياسية في وطننا العربي, نعم لقد وقعنا عندها في المحذور, فحينما غابت قواعد التأسيس ومنطلقات البناء في صلب الوحدة مابين الانسان والحدث السياسي انقضت علينا هذه التيارات الهجينة واستسلمنا لإيقاعها, بعضها يقول إننا محكومون بالهزيمة المطلقة وبعضها الآخر يقول علينا أن نعتنق الأمر الواقع كصيغة نهائية ومواصفات مقبولة مسوغة ومسوقة لأن ذلك هو الممكن الوحيد والخيار الوحيد. وهناك بعض ثالث يقترح الحلول الجاهزة وكما يحدث في التعليب الداخلي لبعض القرارات لابد من استيراد هذه المعلبات من الأقوياء خارج الحدود وهي مترعة بكل ما تتطلبه حياتنا وما يبقينا كقطيع على قيد الحياة, وهكذا فإن المسألة تبدأ هجينة مستغربة ولكنها أمام تيار النكسة واستدامته وفي إيقاع التواتر المنظم للتنازل والاستسلام تتحول إلى أمر واقع ثم تغلف بالواقعية, ثم تصير عادة مستحكمة لا يجد فيها من يريدها أي غضاضة أي شذوذ أو أي عدوان على منطق الحياة وعلى كرامة الإنسان والوطن. إن المسألة لا تخضع لتوصيف المروجين للأمر الواقع والحالة الراهنة, وإنما تبدأ من هناك من البعيد والعميق وكم هي فكرة مجزية وعادلة حينما يرسي الرئيس بشار الأسد مصطلح الفكر الديمقراطي المؤسساتي لأن من لا يملك الفكر الواضح والمتجدد سوف يستغني عن الخطة والمتابعة والبرهان بالتطور الحاصل, عندها يصبح كل شيء هو الديمقراطية وعندها يتحول كل سلوك إلى ظاهرة مشروعة لكن الخاسر في النهاية هو الإنسان وحدثه السياسي, ولا أعرف على وجه التحديد من الذي عمم إشاعة استبعاد الفكر والوعي وإقصاء المفكرين والمناضلين وأصحاب الرأي عن ساحة الحياة المكتظة بضرورات التحول والمعنية باستخراج القوة اللازمة لبناء الذات في الداخل وللرد على التحديات من الخارج وللحصول على منظومة التحصين القيمي والأخلاقي والسياسي والعملي. إن العبثية سهلة للغاية ونزعة متاحة لمن يريد وعلى الغالب يعتنق العبثية أولئك الذين فقدوا أي مقدار من دخول السباق المشرف في الحياة السياسية والاجتماعية ثم راحوا يستدينون من التقاليد والاتجاهات المرضية الأرصدة اللازمة التي يتوهمون أنها تمنحهم القوة وتغطيهم بالذريعة, والبالي العقيم من ذلك هو السكون والجمود وانعدام التأسيس وتحطيم المعيار للقياس هو الانتساب للمظهر كالعشيرة والموقع الجغرافي ومراكز القوى والعلاقة الشخصية وسلطة المال, إن ذلك هو الذي ينسف المقوم الفكري والتأسيسي في حياة الإنسان والحدث السياسي, إن الحل لا يمكن بناؤه إلا من خلال التحليل وهذه مسألة واسعة الأطياف عميقة الأبعاد لكن الأساس فيها هو تكوين الفكر السياسي والديمقراطي والحيوي وتحويله إلى قاعدة في التوعية ومنهج في التربية وصياغته على أساس منظومة الاعتقاد والممارسة ومتلازمة الإنجاز وتصحيح الإنجاز ونقده, وحينما تغيب هذه المقومات تخلو الساحة للأدعياء وهم الأكثر عادة وهم الأقوى عادة لكنهم مع ما ينتجون ويفرضون فسوف يبقون مهزومين من داخلهم وأمام أنفسهم وسوف يسعون بمعدل محموم ألا يأتي أي حدث سياسي أو واقعة عملية تضعهم على المحك عندها تحدث الكارثة وتأتي لحظة الانكشاف, وعندها سرعان ما يغادر هؤلاء الأدعياء ميدان المواجهة والمعركة حيث ينهض الطيبون والبسطاء والفقراء والمعذبون في الأرض ليأخذوا دورهم في ساحة المواجهة ولو بطريقة ميسلون ويوسف العظمة, إن النص القرآني يقول: (لايغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). |
|