تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


هيغل.. بومة منيرفا تحلق عند الغسق!!

كتب
الأربعاء 2/5/2007
لميس علي

( إن بومة منيرفا لاتبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل سد وله..)

ذكر هيغل العبارة السابقة في تصدير لكتابه(فلسفة الحق) المصنف ضمن كتاباته السياسية المتأخرة. ولكن.. لم استخدم مصطلح(بومة منيرفا)? وعلام أراد الترميز ذلك?‏

خلافاً للشرق الذي يتخد البومة رمزاً للشؤم, اعتاد الغرب أن يتخذ منها رمزاً للحكمة. وأما( منيرفا) فهي آلهة الحكمة عند الرومان, ولذلك فتركيب( بومة منيرفا) هو ترميز للحكمة, أتى به هيغل كاصطلاح خاص يعبر به عن الفلسفة بصفة عامة, وعن الفلسفة السياسية بصفة خاصة لديه.‏

ويبقى هيغل( الفيلسوف) الذي قال عنه ألبير كامو:(إنه المفكر الذي عقّل اللا معقول) يبقى موضع خلاف, بين المفكرين والفلاسفة وسواء أكانوا من معاصريه, أو ممن جاؤوا بعده فبينما يراه قوم(الفلسفة) بحد ذاتها, وأنه صاحب أكبر ملحمة فكرية, يرى قوم آخرون أن جل ماجاء به لم يكن سوى( عربدة فكرية) وفي الوقت الذي يؤكد البعض فيه أنه صاحب أكبر منهج ثوري في تاريخ الفلسفة, يرى البعض الآخر أن فلسفته انحصرت في الفكر المثالي, مبتعدة عن المحاولة الجدية الصادقة في تغيير الواقع.‏

- في كتاب(دراسات في الفلسفة السياسية عند هيغل) يحاول المؤلف إمام عبد الفتاح إمام الرد على مزاعم من اتهموا هيغل بالابتعاد عن عالم السياسة, مؤكداً أنها كانت شغله الشاغل ومنذ سنوات شبابه الأولى, ومصححاً الكثيرمما أثيرحوله من تفسيرات (مغلوطة) حول آرائه عن الحرب والثورة.‏

اهتم جروج فريدريك هيغل( 1770-1831م) طوال حياته بالشأن السياسي, وكان من متتبعي الأحداث اليومية, ألم يقل(إن قراءة الصحف هي لون من ألوان صلاة الصبح) فبالإضافة إلى العامل الأسري الذي ساعده على الاهتمام بالسياسة, فقد تولى والده والكثير من أجداده مناصب حكومية, ولعبت تربيته وثقافته دوراً مهماً بذاك الاهتمام الذي نماه توليه لرئاسة تحرير صحيفة يومية في بفاريا, ولتبقى أحداث عصره, العامل الأبرز المسبب لاشتغاله بالسياسة, إذ كان في التاسعة عشرة عند سقوط الباستيل وظهور نابليون وحروبه على أوروبا ومعركة واترلو, وانهيار بروسيا وموت الإمبراطورية الرومانية كل هذه الظروف أدت إلى تغييرات رهيبة في المجتمع الأوروبي.‏

في عام (1793م) غادر هيغل مدينته شتوتغارت عاصمة مقاطعة فورتمبرج, إلى بيرن السويسرية وهناك عاين عن قرب النظام التسلطي الاستبدادي ووجد ظلماً يفوق الوصف كان نتيجة هذا الحكم الارستقراطي الجائر الذي تمارسه بيرن على أبناء المناطق المنخفضة, أن هرب الكثير من أبنائها إلى الخارج وكان من هؤلاء محام شاب هو جان جاك كارت, الذي نشر في باريس عام (1793م) كتاباً صغيراً عن الموقف السياسي في بلاده, والأحداث الراهنة فيها .‏

ما إن وقع هذا ا لكتاب بين يدي هيغل حتى قام بترجمته إلى الألمانية,ليكون عمله السياسي الأول الذي فضح من خلاله حكومة بيرن الفاسدة, هيغل الشاب المتأثر بأفكار عصر التنوير و بمبادىء الثورة الفرنسية,لم يترجم رسائل( كارت) فحسب, وإنما تبنى موقفها وأراد لها أن تزعزع الحكم الرجعي الأوليجاركي في أي بلد كان وأي زمان مؤكداً:( أن الظلم يجلب عقابه الخاص).‏

هيغل الثورجي: (أنا أنتظر ثورة ألمانيا):‏

أما عمل هيغل السياسي الثاني فقد كان كشفاً للرجعية السياسية لكن في ألمانيا هذه المرة, بسبب التوتر والاضطراب السياسي الذي تعيشه البلاد, ولاسيما في مقاطعة فورتمبرج ذات البناء الدستوري الهزيل, في مقدمة الكتاب يدعو هيغل مواطني بلاده إلى اتخاذ موقف واضح ويطلب منهم أن يكونوا مثل جماهير باريس, أن يبذلوا كل جهد لتغيير الواقع الفاسد, إذ كان متشوقاً للإصلاح.‏

هيغل وهو في العشرينيات من عمره في ورقة عمله التي يقدمها إلى شعبه وما فيها من إلحاح لأجل العمل الدؤوب تغييراً للوضع القائم, إنما يؤكد على خطأ ا لفكرة القائلة بأن الهيغلية اكتفت بمحاولة فهم العالم دون العمل على التغيير والإصلاح كما يوضح المؤلف إمام.‏

الحرب.. ضرورة:‏

(هناك لون من ألوان الحرب هو بمثابة القوة المحركة لتطور الطبيعة)‏

أثارت آراء هيغل حول الحرب الكثير من التأويلات فانقسم على إثرها مفسروه إلى فريقين, فريق مؤيد فهم الرؤية والفلسفة الهيغلية للحرب باتجاهها الصحيح وفريق آخر عارضه, ورأى أن هيغل إنما هوداعية حروب, بل لقد تطرف هذا الفريق في رأيه حتى أنه جعل هيغل مسبباً ومسؤولاً عن النزعة العسكرية العنصرية الألمانية وعلى رأس هذا الفريق يقف عالم المنطق كارل بوبر الذي يصف هيغل ب( الفاشستي الأول).‏

هيغل.. والثورة الفرنسية:‏

تحمس هيغل كغيره من المفكرين الألمان للثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789م وله من العمر تسعة عشرعاماً وهو يدرس في معهد توبنجن الديني مع رفيقيه( شلنج) و( هلدرلن).‏

أخذ الثلاثة يبشرون بمبادىء الثورة في (الحرية والإخاء والمساواة) فلم تكن مجرد ثورة خاصة بفرنسا وحدها, بل أثرت أحداثها في القارة الأوروبية كلها, ورأى هيغل أنها نقطة تحول في التاريخ.‏

فهل استمر بموقف المؤيد لهذه الثورة حتى عندما قصرت بتحقيق أهدافها التي قامت لأجلها? وكيف فهم هذا التقصير الذي اعتراها?‏

ظل هيغل مؤمناً بمبادىء تلك الثورة وإذا كان قد انتقدها, فإنما فعل ذلك لأنها برأيه فشلت بوضع تلك المبادىء موضع التطبيق وبقيت شعاراتها مجرد شعارات لم تقترب من التفعيل, وعمت الفوضى باريس, وسيقت الكثير من القيادات التي نادت بالثورة إلى المقصلة, ومنهم مدام رولان التي أطلقت صرختها:‏

( أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك).‏

- إن الفلسفة, كما أكد هيغل, لاتبدأ عملها إلا بعد أن يكمل الواقع بناءه, وبالتالي فإن( مهمة الفلسفة الكشف عن الأفكار الأساسية أوالركائز العقلية التي يقوم عليها البناء), أي تظهر متأخرة بعد أن تكون النظم قد شاخت, فتعبّر عن الأفكار السائدة التي تشكل أساس بناء المجتمع, كما لو أنها تعبر عن الواقع بصورة مذهب فلسفي, ولذلك فإن الفلسفة( بومة منيرفا) لاتبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله.‏

***‏

الكتاب: دراسات في الفلسفة السياسية عند هيغل‏

المؤلف: د. إمام عبد الفتاح إمام.‏

الناشر: الدار ا لوطنية الجديدة( الأهالي سابقاً)- دمشق‏

دار التنوير- بيروت 2007م‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية