تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عندما ننسى كل شيء... ماذا يبقى عالقاً في الذهن؟!‏



ثقافة‏
الأثنين 28-3-2011م‏
حسن حسن‏

المعرفة بعد مهم في الثقافة، لكنها ليست كل الأبعاد، ثمة أبعاد أكثر أهمية تجاوز التلقي السلبي، فتحيله فعلاً إيجابياً لصالح الفرد والجماعة والبيئة.‏

الثقافة ليست مجرد المعرفة ليست زيادة حصيلة المعرفة، ولا إضافة رفوف جديدة من المعلومات في داخل الذهن الإنساني، لكنها إسهامات متجددة ومطلوبة، في تحقيق التفاعل بين المرء والعالم الذي يحيا فيه، وفي تعميق رؤيته الأكثر اتساعاً للأفراد، وللجماعة التي ينتسب إليها، وللعالم.‏‏‏

المعرفة لاقيمة لها مالم تستتبعها محاولات لتطبيقها في الحياة اليومية في إحداث مراجعة للوعي والنظرة.‏‏‏

والثقافة بمعنى قراءة الكتاب، وسماع المقطوعة الموسيقية، ومشاهدة المسرحية أو الفيلم... هذه الثقافة ليست سوى «معرفة»، يتعلم المرء جديداً يضيفه إلى مخزونه المعرفي.‏‏‏

أما الثقافة، فإطارها السلوك، الفعل، التصرف.‏‏‏

المثقف هو الإنسان ذو المعرفة والموقف الحضاري في آنٍ، لاقيمة لقراءة الكتب وسماع الإذاعات ومشاهدة المسرح والسينما والقنوات الفضائية، مالم يلتحم بذلك كله سلوك يعنى بالتطبيق الإيجابي والفعال لكل ما حصله المرء من معرفة.‏‏‏

وكما يقول ديهاميل، فإن الحضارة إذا لم تكن في قلب الإنسان، فإنها لن تكون في أي مكان، الثقافة لا توجد إلا بوجود المجتمع، والمجتمع لا يقوم ويبقى إلا على الثقافة، إنها طريق متميزة لحياة الجماعة ونمو متكامل لحياة أفرادها، فهي إذاً تعتمد على وجود المجتمع، وتمده بالأدوات اللازمة لاضطراد الحياة فيه، تستوي فيه الطاقات البدائية والمعاصرة، وثمة فارق بين المتعلم، أي الذي حصل على المعرفة، وبين المثقف، وقد ضرب أندريه مالرو مثلاً في الفرق بين المتعلم والمثقف، بعالم الكيمياء الذي يحيا داخل معمله، ولا تثيره قضايا العالم الثالث، هذا هو المتعلم، أما المثقف، فإنه ذلك الذي يمتد باهتماماته خارج دائرة الذات، وتزداد ثقافته، كلما اتسعت دائرة اهتماماته.‏‏‏

الثقافة تالية للمعرفة.. السلوك هو التطبيق لما نتعلمه، لما نحصل عليه من معرفة، بمعنى أن المعرفة هي النظرية، أما الثقافة فهي التطبيق، والعكس -هنا- ليس صحيحاً، ولعله يمكن القول إن المعرفة- أو التعليم- هي واسطة نقل الثقافة، الثقافة «هي عناية بالذهن كي يعطي مردوداً أفضل، كما أن الزراعة عناية بالأرض كي تعطي مردوداً أفضل».‏‏‏

وكما يقول إدوار هيريو، فإن الثقافة «هي ما يبقى عالقاً بالأذهان، عندما ننسى ماتعلمناه على مقاعد الدراسة».‏‏‏

ثقافتنا تبين عن نفسها في كل تصرفاتنا: في النوم والصحو والقراءة وتناول الطعام والتحدث والفسحة واللعب وإقامة الصداقات وتجميل البيت، والعناية بالكتاب واختيار الأثاث..‏‏‏

وكما ترى ماري دوغلاس، فإن تطبيقات نظرية الثقافة لتفسير أمور مختلفة، تبدأ بأساليب حفظ الطعام.‏‏‏

والدلالة واضحة في قول إيليا هرنبورغ «أنا أكثر إيماناً بأهمية التقدم الثقافي للشعب، مني بتقديم الفن نفسه، لأن الجمهور الواعي هو الذي يفرض على الفنان السمو والارتفاع».‏‏‏

متى نصف الإنسان الذي لا يجيد القراءة والكتابة بأنه مثقف؟.. المثقف هو الذي يستمد ثقافته من الكتب والخبرات الشخصية وخبرات الآخرين والتأمل وطرح الأسئلة، بحيث تشكل لديه رؤية، يسهل تطبيقها، يقول الرجل في قصة نجيب محفوظ «حارة العشاق » «الثقافة أن تعرف نفسك، أنت تعرف الناس، أنت تعرف الأشياء والعلاقات، ونتيجة لذلك ستحسن التصرف فيما يلم بك من أطوار الحياة».‏‏‏

الثقافة ليست ترفاً مقصوداً لذاته إنها تتصل بالحضارة اتصالاً وثيقاً، فهي مجموعة القيم والأنساق الفكرية والسلوكية التي تميز شعباً أو مجتمعاً معيناً، وتعريف آخر، بأنها أساليب التفكير ونوعية المعرفة والنظرة العامة إلى العالم التي تميز فرداً أو جماعة معينة داخل المجتمع الواحد، وإذا كان للثقافة وجهها المادي المتمثل في الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا، فإن لها وجهها المعنوي المتمثل في الأخلاقيات والتقاليد والمعتقدات وأنماط السلوك والخبرات وغير ذلك.‏‏‏

وهي المفتاح السحري للإفادة من الماضي، والتعامل مع الحاضر واستشراف المستقبل، إنها في المجتمعات النامية خاصة- تعني إفادة المواطن من كل التطورات العلمية والتقنية والاقتصادية التي يشهدها عالمنا المعاصر، فهو قد يفكر ولعله يحاول بالفعل أن يستخدم أساليب الزراعة الحديثة، بدلاً من تلك التي يستخدمها منذ فجر حضارته، ومن ثم يوفر كثيراً من الوقت والجهد، ويحقق إنتاجاً أخصب وأوفر.‏‏‏

إن حاجتنا إلى الطعام ليست ثقافة، الثقافة في عادات الطعام، في اختيار أنواعه، وطريقة طهوه، ووسيلة تقديمه، وأدوات تناوله من ملاعق وشوك وسكاكين وأطباق وغيرها.‏‏‏

وكما يقول الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو، فإن الثقافة بحكم رسالتها وتفاعلها، تحمل في طياتها بذور التطور بل حتى القوة، فالتفكير معناه الحكم، وبالتالي تمهيد السبل أمام التغيير، إنها- في أحد أبعادها- التعبير عن البيئة التي يصنعها الإنسان، عن كل مايتوصل إليه فكره، وتصنعه يده.‏‏‏

لقد تمنى الشاعر يوماً، أن يتساوى القلم والمدفع وأن يوضع القلم مع الحديد ضمن الصناعة الثقيلة، فالثقافة -بحق- هي الصناعة الثقيلة للمعرفة.‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية