|
ثقافة حتى بدأت تظهر مصطلحات جديدة تقترب منها في الدلالة المعجمية وتتجاوز في اكتساب ظلال نقدية ودلالية فرضتها الممارسات الأدبية والتطبيقات النقدية والإطلالات من النوافذ المشرعة على الثقافات الأجنبية في الثلث الثاني من القرن العشرين كالتجديد، والتحديث والحديث، والمعاصرة. أما مصطلح «الحداثة» فلم يكتسب دلالته النقدية الجديدة ويتردد صداه بظلال الحركات الأدبية في الغرب عبر الكتابات الموشاة بطوابع من النقد الأدبي العربي تتسم بالمعاصرة إلا بعد ظهور حركة (الشعر الحر) كمصطلح أولي معتمد لهذا التجديد الطارئ على شكل القصيدة العربية الحديثة ومضمونها ومقدرتها على الثبات في وجه التيارات المضادة لها على مختلف الصعد في الخمسينيات والستينيات من القرن المنقضي. -2- من المسلم به أدبياً وتاريخياً في مدونة منظومة دراسة الشعر العربي المعاصر ونقده أن الشاعر بدر شاكر السياب هو أيضاً كنازك الملائكة أهم رواد جيل الحداثة في بدء مسيرتها وقد تنازع قصب السبق في النظم على الشكل الجديد مع نازك إلا أنه في شكله الفني كان أكثر نضجاً وعمقاً من شكلها بغض النظر عن الموضوعات المعالجة في شعر كل منهما، فقد تجرأ إلى حد ما على أن يحطم قيد القافية المنتظمة في نظام التناوب أكثر مما تجرأت هي وتسربل شعره بالمضمون القومي الاشتراكي وبدت في دواوينه المتلاحقة بدءاً من ديوانه «الحقيقي» الأول (أنشودة المطر) فكرة الالتزام المذهبي واضحة موقفية، كما اتشحت أعماله الشعرية بوشاح الانشداد إلى التراث والأصالة والاتكاء عليهما في أدواته الإيصالية تعبيراً ونسقاً وصياغة واشتهر بأنه من الفاتحين في استخدام الأسطورة والرمز في حركة شعر الحداثة استخداماً موفقاً في أكثر من قصيدة له وليس في مجمل أعماله المنضوية تحت هذا الباب. وبصدد استخدام الأساطير في شعر الحداثة وتوظيف رموزها في شعره يقول السياب في حوار أدبي أجراه معه صحفي عراقي في شهر تشرين الأول من عام 1963 «لعلي أول شاعر عراقي معاصر بدأ باستعمال الأساطير ليتخذ منها رموزاً». كان الدافع السياسي أول ما دفعني إلى ذلك فحين أردت مقاومة الحكم الملكي في العراق بالشعر جعلت من الأساطير التي ما كان زبانية (نوري السعيد) ليفهموا ستاراً لأغراضي تلك، كما أنني لجأت إليها للغرض ذاته في عهد (عبد الكريم قاسم). ففي قصيدتي -مثلاً- سربروس في بابل هجوت قاسماً ونظامه أبشع هجاء دون أن يفطن زبانيته لذلك، كما فعلت الأمر نفسه معهم في قصيدتي «مدينة السندباد» وحين أردت أن أصور فشل أهداف ثورة 14 تموز الأصلية استعضت عن اسم «تموز» البابلي باسم «أدونيس» اليوناني الذي هو صورة منه، إنني الآن ألغيت كل الأساطير تقريباً من شعري ولم يعد فيه من ذكر إلا لشخصيتين أسطورتين وما يتعلق بهما هما السندباد العربي وأدويسيسوس الإغريقي». وحسناً فعل السياب حين افتتح إجابته بقول «لعلي» لأن الوقائع الموثقة -كما يثبت الدارسون- تذكر أن اثنين من الشعراء العراقيين المجايلين للسياب قد استخدما الأساطير في مرحلة مبكرة من مراحل تطور كل منهما وهما نازك الملائكة وبلند الحيدري. أما أسطورة السندباد فالمعروف أن الشاعر صلاح عبد الصبور هو في عرف بعض الباحثين المتابعين أول من استغل هذه الشخصية في الشعر الحر وذلك من خلال قصيدته «رحلة في الليل» الموجودة في ديوانه «الناس في بلادي». والعبرة -كما ذكر بدر نفسه في الحوار المشار إليه-ليست في كونه أول أو آخر وإنما في كونه قادراً على العطاء و (الإيصال) والتأثير بشعره في جمهور المتلقين ذوي المعرفة المحدودة الضئيلة في هذا الجانب، أي جانب الأساطير والرموز. -3- ترى جمهرة من النقاد والدارسين المعاصرين لشعر حركة الحداثة العربية ومنهم رعيل من شعرائها الرواد المتزامنين مع جيلها الأول منذ فجر بداياتها في أربعينيات القرن الماضي وانتهاءً بحسم معركتها ضد القدامة الشكلية والشكلانية لصالح الجديد الشعري المستحدث بتسميته السائدة آنذاك والانحياز إلى زمن التقدم الحضاري والتقني الراهني في مختلف مجالات الحياة اعتباراً من النصف الثاني للألفية الأولى حتى اللحظة الحاضرة لمطالع الألفية الثانية وفي مقدمة هؤلاء وأولئك من النقاد والشعراء الناقدة الشاعرة المبدعة سلمى الخضراء الجيوسي في قولها بهذا الصدد بكتابها المرجعي الشامل «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث»: كان السياب منذ بداياته يكشف عن فحولة القديم في أسلوبه ولغته بحيث لا يتطرق الشك إلى النبوغ الفذ الذي كان يكمن وراء قصائده وتنم القصائد الحرة في شعر نازك الملائكة عن نقاء في الأسلوب وخبرة في التقنية ورؤية فنية نادرة الوجود ليس بين الشاعرات وحسب بل بين الشعراء كذلك، لقد كان واضحاً منذ البداية أن هذين الشاعرين سيقودان ثورة الشكل في الشعر العربي الحديث مع حظ طيب من النجاح. وتتابع سلمى رأيها السابق فتكتب في المدونة نفسها «من الطريف أن نلاحظ كيف أن هؤلاء الشعراء الثلاثة بدؤوا رومانسيين في دواوينهم الأولى ثم تحولوا عنها: السياب والبياتي بشكل جذري والملائكة بشكل تدريجي». |
|