|
شؤون سياسية هذه الحقيقة لم تعد خافية على أحد ، بل إنها سياسة اسرائيلية معلنة ومكشوفة ونافرة في زمن الكنيست السابع عشر وحكومة نتنياهو. والحدث الكبير في الأسبوع الفائت، والذي شكل قفزة جديدة في عملية التهويد، الكشف عن مخطط استيطاني يقضي ببناء 16 وحدة استيطانية في حي الشيخ جراح. فيما يعني توجيه ضربة قاضية إلى عروبة المدينة وإغراق تاريخها العربي والاسلامي وهويتها الأصيلة في الإسمنت المسلح. لقد أخرج الكثير من المشاريع من خزانة الحفظ، وتم وضعها على طاولات التنفيذ، من حيث الانذارات بهدم الأحياء والترخيص بتسجيل الأملاك والعقارات التي استولى عليها المستوطنون في البلدة القديمة من أجل تثبيت ملكيتها لجهات يهودية واستيطانية . كما أقدمت السلطات الاسرائيلية قبل عامين على هدم بناية المجلس الاسلامي الأعلى بالجرافات ، وهو المبنى المعماري الذي بني في عام 1929 ، وهو إحدى روائع الفن المعماري والحضاري الإسلامي في القدس، رغم أن الأمم المتحدة لا تزال حتى الآن لا تعترف بشرعية ضم القدس ، وكانت في عام 1980 قد اعتبرت اجراءات الضم باطلة ولاغية، خصوصاً أن القدس الشرقية احتلت عام 1967 من جانب « اسرائيل» وهي تقع ضمن قرار التقسيم الرقم 181 عام 1947 ، ولذلك ، فإنها تقع في حدود الاقليم العربي، في حين أقدمت «اسرائيل» كجزء من محاولات الحصول على المكاسب السياسية جراء العدوان والحرب على ضمها بما يخالف القانون الدولي. والقرار «الاسرائيلي » الأخير لا يمكن فهمه خارج هذا السياق ، خاصة أن «اسرائيل» تشعر أنها في سباق مع الزمن وتحاول إلى أقصى طاقة استثمار الخلل الراهن في ميزان القوى لمصلحة مشروعها التهويدي ، وتعمل لتكريس وقائع خاصة تستبعد أي تغييرات في هذا الميزان ، وفرض سياسة أمر واقع على أي طاولة حوار، علاوة على أن مشروعها الأصلي الذي يقوم على الإحلال التام وإلغاء الهوية الفلسطينية من خلال محاصرة فلسطينيي ال 48 وسحب البساط التاريخي من تحت أقدامهم . تمهيداً لترجمة شعار يهودية «اسرائيل» إلى واقع جديد لا وجود فيه لفلسطينيين ولأسماء فلسطينية ، باعتبار أن هذه الأماكن والأسماء تمثل جسر الذاكرة الوطنية بين الأجيال المتعاقبة. والقرار «الاسرائيلي» لايعني أن السياسات الاسرائيلية قبله كانت قائمة على احترام التاريخ الفلسطيني والوجود الفلسطيني الصامد في أراضي 48 فلقد دأبت الحكومات « الاسرائيلية» المتعاقبة على فرض العديد من القوانين، واطلاق سيل من الشعارات والأوصاف التي تنال من هوية أصحاب الأرض الأصليين وتتعامل معهم ك « طابور خامس» أو كدخلاء على وطنهم ، وفي هذا السياق شهدنا حالات مصادرة للأراضي ، وقوانين تمنع فلسطينيي ال 48 من البناء أو حتى ترميم منازلهم وخاصة أرضهم ، وكذلك تقليص ميزانيات المجالس المحلية للتجمعات السكنية الفلسطينية . إذن نحن لسنا أمام سياسة جديدة، بل حلقات في مسلسل وتجليات عملية لتوجه سياسي وخط عملي بدأ مع انطلاق المشروع الصهيوني ، خط يتصاعد بشكل حلزوني مدماكي بحيث يؤسس الخطاب الاعلامي للبناء عليه عملياً ، ثم البناء على ما يتم بناؤه مدماكاً آخر وصولاً إلى طرد ما تبقى من فلسطينيين صامدين في وطنهم ، ولعل تصريح الحكومة «الاسرائيلية » الأخير الذي يطالب السلطة الفلسطينية بنسيان حق العودة يندرج في هذا الإطار . إن القيمة الاستثنائية لمدينة القدس ، لاسيما القديمة منها، يتطلب من المجتمع الدولي، وخاصة منظمة اليونسكو العمل على حمايتها ووضعها على لائحة المدن التراثية العالمية والحفاظ عليها سواء الأماكن الدينية أو الأثرية ، ولهذا فإن حملة التهويد لجعل القدس أحادية التكوين تعتبر باطلة ولا شرعية، لأن القدس رغم كل شيء ظلت مدينة تعددية ثقافياً ودينياً وعرقياً، وأن أي اقصاء أو تهميش للوجود الفلسطيني وخاصة الإسلامي والمسيحي ، إنما سيؤدي إلى القضاء على طابع المدينة، ويبني بالتالي جداراً ديمغرافياً، هدفه التخلص من سكانها العرب المسيحيين والمسلمين والإبقاء على العنصر اليهودي لوحده، وسيكون ذلك ليس بعيداً عن الممارسات المعهودة للاستعمار العنصري الاستيطاني الاجلائي ضد سكان البلاد الأصليين لإجبارهم على الرحيل، بعد انتهاك وهدر كامل منظومة حقوق الإنسان، الجماعية والفردية، لاسيما حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه. إن معركة القدس اليوم، أصبحت إلى حد بعيد معركة وقت، لم يعد المحتل يصبر فيها ويخطط على مدى عشرات السنين، بل هو ينظر إلى السنوات القليلة الآتية على أنها سنوات حاسمة ، وهو إن تمكن من حسم هوية المدينة خلالها، فسيتكرس شعوره بالقدرة على البقاء والقابلية للحياة، أما إن فشل خلالها في حسم هذا المصير ، فسيبدأ الشعور باليأس من حسم هوية هذه المدينة يتكرس ويستتب لديه، وسيكون لهذا انعكاسات حقيقية على ثقته بديمومته وبقدرته على البقاء ، فإن لم تكن « اورشليم» ممكنة ، فهل «اسرائيل ممكنة»؟! |
|