|
ثقافة بالتأكيد.. لم يكن أي واحدٍ من هؤلاءٍ يبالغ أو يكذب أو يتوهم أو ينافق, لنتوقف لدى مقولة الشاعر الفرنسي (أراغون) باعتبارها كانت رداً على صحفيٍّ سأله ذات يومٍ عمَّا إذا كان الحب يستمر مدى الحياة. بالتأكيد لم يكن سؤال الصحفي عبثي الهدف, ذلك أن حب (أراغون) ل (إلزا) كان قد تخطى حدود عالمه. (إلزا) المرأة الوحيدة التي سكنته فألهمته كتابة عدة مجموعات شعرية منها (نشيد إلزا) و(عيون إلزا) و(مجنون إلزا). المجموعة التي كانت سبباً في إطلاق لقب (مجنون إلزا) عليه, بل وفي انطلاقة شهرته باعتبارها من أشهر وأجمل أعماله الشعرية وأيضاً من أروع ماكتبه شعراء القرن العشرين وليس في فرنسا وحدها وإنما في كافة أنحاءِ العالم. ولد (لويس أراغون) في الثالث من تشرين الأول /1897/ ولحظة انطلقت من أحد البيوت الموجودة في ضواحي باريس, صرخة مولودٍ كان مجيئة على العالم وزراً على عائلته وخاصة أمه التي حاولت وطيلة حياتها إخفاء حقيقة وجوده, وببدعةٍ قالت فيها بأنها من احتضنته بعد وفاة والديه.. من هنا, فإنَّ (أراغوان) ومثلما أتى إلى الوجود في جوٍّ شتائيٍّ مكفهر وصاخب, أتى أيضاً في الفترة التي كان المجتمع فيها ممزَّق وفي حالة انقلابٍ على مفاهيمٍ أعلنت نقمتها على كلِّ من سمح للبشاعة بأن تدنِّس الأرض.. لكن, وما إن انتهى من دراسته الثانوية, حتى شرع في دراسة الطب ليلتقي بعدها ب (أندريه بروتون) زعيم السريالية التي كانت سائدة آنذاك, ما دفعه لترك دراسته وللانضمام إلى مجلة آداب وكعضوٍ من أعضائها. فجأة, ومن خلال صداقته بالشاعر الروسي (ماياكوفسكي) تعرف إلى (إلزا) لتتوه ذاكرته في عينيها ومن ثمَّ لتتحوَّل إلى الملهمة الأولى ورفيقة الدرب, بل والمركز الذي تشعُّ منه أجمل قصائده, وبمفرداتٍ منها: «أدورُ في نورِ النهارِ ووجدانِ الليل أحمل تلك المرأة في دمي كما تحمل غابة صوتها».. عندما التقى (إلزا) كان قد أصبح كاتباً واقعياً, دون أن يمنعه ذلك من الالتزام بامرأة واحدة وحبٍّ وحيد, وهي من أهم ما كانت تقوم عليه السريالية. بيد أن كلماته التي قالها لها والتي هي: «لقد بدأتْ حياتي بحقٍّ في اليوم الذي قابلتكِ فيه بباريس», كان لها أشد الأثر على إحساسه بأنَّ الحب هو أكبر محرِّضٍ للدفاع عن كل ما يمسُّ حرمة الوطن. فهاهو يشارك في الحرب العالمية الأولى ويبلي بلاءً حسناً ليتعرض بعدها للسجن ولأكثر من خمس مرات, وبسبب قصيدته (الخطوط الأمامية الملتهبة). أيضاً, وما إن أعلنت الحرب العالمية الثانية حتى دخل على زوجته (إلزا) وصرخ بغضبٍ: «اسمحي لي بأن أتوقف عن حبك لأنني لا أستطيع أن أحب ضمن غرفة بين أربعة جدران, ولا يكون لحبي معنى إذا لم أظهره وأعلنه أمام الفرنسيين في الشوارع والحدائق وكل مكان». قال هذا ليبدأ بعدها قيادة الشعب بقصائده القومية, وبكتاباته التي كانت تحضُّهم على مقاتلة الغزاة الألمان وإلى أن وقع أسيراً ومن ثمَّ أفرج عنه, لينضمَّ بعدها إلى حركة المقاومة ضد الاحتلال النازي متابعاً نضاله الشعري والمسلَّح وصولاً إلى انتهاءِ الحرب العالمية الثانية بتحرير فرنسا وهزيمة ألمانيا. إنه الحب الذي منحه حساسية شعرية أعانته على إيصال كلماته إلى الآخرين, وبما فيها من رهافةِ كلمات وعمقٍ وجداني وأسلوب رائع ميَّزه كأميرٍ من أمراءِ البيان في فرنسا, وأيضاً كناقدٍ أدبي ومناضل سياسي وروائي من طرازٍ مبدع في التعبير عن كلِّ ما كان يدور في مجتمعه من أجواءٍ.. وتموت (إلزا) ليشعر بحزنٍ لم يبارحه لطالما ظلَّ يعتصر قلب شاعرٍ هو من القلائل الذين أبقوا على رباط الزوجية والحب. ذاك الذي استمرَّ وفي رواياته وأشعاره ليستحقَّ بحق أن يلقَّب ب (مجنون إلزا) العمل الخالد الذي ما أشبهه ب (مجنون ليلى), بل وما أقدره على أن يكتب تاريخاً جديداً للحرية, وبما جعل فيه الوطن, هوية للمرأة المعشوقة.. وهكذا, انقطع (أراغون) عن الكتابة وآثر الصمت طويلاً وإلى أن فاجأ العالم ومحبيه بكتابه الأخير (الكذب الصادق) الذي كتبه وهو في الثالثة والثمانين, أي قبل رحيله بما يقرب من ثلاثة أعوام, لتأتي أخيراً النهاية وفي عام /1982/ وبعد نزعٍ دام ثلاثة أشهر وعلى مرأى من ذكرى وصورة (إلزا).. أخيراً.. توقف قلب (مجنون إلزا) عن الحياة ودون أن يتوقف عن الحب لطالما الهوى أبقاه خالداً وبوصيَّته التي شيَّعت جثمانه حيث قبر الحبيبة, وتحت شجرة خوخٍ في حديقة منزلهما قرب باريس. هذه الحديقة التي ومثلما خلَّدته شاعراً عاشقاً خلَّدت (إلزا) قصيدة.. |
|