تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الفن التشكيلي يشــفع للحـــرف اليدويـة في مواجهـــة الحداثــــــة

ثقافـــــــة
الأحد 17-2-2013م
 تماضرابراهيم

من مستلزمات أي حضارة في العالم انتعاش المهن الشعبية والصناعات التراثية وغيرها من المهارات اليدوية ويعرفها البعض بأنها ما ينسال من مداد القلب والفكر بفطرة مزجت بما وهبه الله لنا فألفت الفن والجمال وأبدعت بما نحتاجه في كل مجالات الحياة

فكانت الصناعات اليدوية بأدوات بسيطة نتج عنها ابداعات فنية شعبية ورافقتنا هذه البساطة الفنية الرائعة على مر العصور إلى أن اقتحمتها التكنولوجيا في عصرنا هذا وشكلت سداً منيعا يواجه أنامل الحرفيين ويهاجمها مجرّد ً الخط وحروفه العربية من الروح والجمال منافسا ببعض ميزات تناسب عصر السرعة والاستهلاك، هذه التطورات سببت انقراض بعض الحرف التي كانت مفخرة وإبداعا فنيا رائعا مثل النول اليدوي السوري الذي ذاع صيته يوما في المشرق والمغرب ولم يبق منه اليوم إلا القليل، وحرفة الخطاطين، والفخار، وتجليد الكتب وغير ذلك الكثير من الحرف التي عكست التاريخ السوري وألقه من خلال الفن والروح والجمال، اليوم اضمحلت هذه الابداعات الحميمة وذهبت ضحية المعاصرة وسيطرة الآلة، وشتان بين طوفان انتاج الآلة باهت الاحساس وبين الإبداع الفني الجميل الذي تنفرد به القطعة اليدوية بما تحمل في ثناياها من خلجات روح فنان عاشها بكل تفاصيلها وعاشته بكل أحاسيسه ومشاعره حتى غدت بالنسبة له سجلاً يحفل بسيرة ذاتية مرهفة عاشها الحرفي ويستحضرها وقتما يشاء بصدق وبمجرد النظر إلى نتاجه.‏

الخط في مواجهة التكنولوجيا‏

بعض الحرفيين تمسكوا بمهنتهم وقاموا بتسليحها لمواجهة تيار الحداثة الجارف عندما حولوا الحرفة إلى فن قائم بذاته مثل فن الخط الذي هو أس الحروفية في التشكيل الفني.‏

اهتم الخطاطون بالخط العربي منذ القدم وحمل نتاجهم أسماءهم التي لاتزال في الذاكرة مثل الخطاط نعيم وحامد وغيرهما، بقيت هذه المهنة بالذات تزدهر في أوقات وتخبو في أوقات أخرى، وتعيش زهوتها  فقط مع تنافس الحملات الانتخابية والدعائية.‏

الخط وإضاءات تاريخية‏

كتب القرآن الكريم عند نزول الوحي على النبي محمد(ص) بالخط المسند المنشق من الخط النبطي، الذي تطور مع الزمن وتنوع عند انتشار الفتوحات الإسلامية في بلدان لا تتكلم اللغة العربية، وعرّف الإسلام على حضارات الشعوب الأخرى، وقد اجتهد بعض الخطاطين لابتكار قواعد ضبط حروف اللغة ضمن هندسة مبنية على أساس النسبة الذهبية أو ما يسمى الخط المنسوب الذي برع فيه ( قطبة المحرر الذي توفي عام 13هـ وأبو علي بن مقلة الذي توفي عام 328هـ وياقوت المستعصي أيضا الذي توفي عام 698هـ ).. وكان لكل بلد عربي الخط الذي يتميز به ففي منطقة الشرق، وتحديداً بغداد، كان الخط النيسابوري هو السائد، بينما حافظت سورية على غناها وتنوعها واحتضانها ليس لأنواع عدة من الخط العربي بل لثقافات عدة ساعدها في ذلك تنوع مكانها الجمالي، حيث شهدت مراحل تطوره اللاحقة من مرحلة استخدام الحرف العربي في التزيين وكتابة القصائد، كما كان دارجاً في الدولة الأموية، حيث كان الخط العربي فناً قائماً في حد ذاته، وصولاً إلى عصرنا الحالي الذي غدت فيه اللوحة الفنية التشكيلية الحروفية انموذجا فنيا له قواعد ومرتكزات ذات تاريخ بعيد، فقد مزج بعض الفنانين حروفهم بألوان شكلوا منها أجمل اللوحات الفنية فابتكروا وأبدعوا وطوروا أدواتهم وأقاموا معارض تشكيلية كثيرة، في محاولة ناجحة لاستمرار التخطيط وهم الفنانون التشكيليون الحروفيـون الذين التزموا الصدق والإخلاص بالعمل وابراز أهمية الخط العربي ومكانته الفنية، وتاريخ الفن يشيد بذكر هؤلاء البارعين في الخط مثل الفنان محمود حماد وحاليا الفنان محمد غنوم.‏

فن الغلاف (تجليد الكتب)‏

فن الغلاف ( الغطاء الحافظ لمجموعة من الأوراق ) مر بمراحل فنية اهتم بها المسلمون قديما ومع انتشار الإسلام أصبح التجليد فناً قائماً بذاته، له من الأسس العلمية والفنية ما يجعله مهنة عالمية لها تاريخها العريق حتى نهاية القرن الحادي عشر.‏

المصحف أول كتاب يجلّد‏

تجليد الكتب حرفة قديمة لها تاريخ طويل وتعتبر من الحرف اليدوية التي جرفها تيار الحداثة أيضا، فقد كان لها خصائصها بطابع تقليدي يتواءم مع المراحل التي مرت بها، استخدم فيها الخشب والبردي والجلود وخاصة جلد الماعز الذي كان يدبغ ويعالج ثم يقص ويخاط للقيام بعملية تجليد الكتب المهترئة وترقيعها أحيانا وهذا ما تناقلته الأجيال كمهنة عرفها العرب منذ بداية عصر الإسلام وأيام الخلافة، وكان المصحف هو أول كتاب يجلّد كإجراء وقائي للصفحات المكتوبة خوفاً عليه من التناثر والضياع.‏

كان التجليد عبارة عن لوحتين من الخشب مثبتتين من الخلف بخيط رفيع من ليف النخيل، ثم الحقت به تطورات في الصناعة وفي الزخرفة على حد سواء، أما زخرفة جلود الكتب فقد أنتجت خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة، اعتمدت فيها الأشكال الهندسية والنباتية إلى جانب الأشرطة المتشابكة، بطريقة الضغط للأختام والتذهيب للتجميل بعد ذلك دخلت الألوان، وهذا يعني تطوراً آخر لهذا الفن، ثم استبدل البردي والخشب بالورق المغلف بالجلد، واستخدمت صفائح الذهب المرصع بعضها بالأحجار الكريمة في تغليف المصاحف ، ولاسيما تلك المصاحف العائدة إلى الملوك والأمراء، وأدخل إلى الزخارف صفائح رقيقة من الذهب والفضة، وفي القرن التاسع الهجري شهدت القاهرة ازدهارا مميزا لهذا الفن سواء في الزخرفة أم في التكنيك، بسبب ماكانت تتلقاه الصناعة والفنون من اهتمام ورعاية من قبل الحكومة، وفي إيران نهض هذا الفن نهضة هائلة أنتجت أفخر المخطوطات وأروعها تميزت بدقة صناعتها وزخارفها المذهبة والخط الجميل والجلود الثمينة.‏

ما بين القرنين الثامن والتاسع الهجريين عندما قامت دولة العثمانيين في الأناضول،  ساهم في قيام هذا الفن الكثير من الصناع والفنانين الذي جيء بهم من مصر والشام وإيران. ‏

وانتجوا أغلفة عثمانية غاية في الروعة والدقة استخدموا فيها الرسوم الآدمية والحيوانية بشكل واسع، وبذلك في القرن السادس عشر الميلادي أصبح فن التجليد الكلاسيكي العثماني،  أكبر ممثل لصناعة التجليد التركي والإسلامي، واستمر هذا الوضع إلى القرن العشرين الميلادي.‏

التجليد وتحويله إلى فن قائم بذاته‏

نحن كفنانين لا تخفى علينا اليوم تجربة الفنان المصري محمد عبد الظاهر الذي تُنظَّم له المعارض العالمية، وتخصص له محلات «لافاييت» الفرنسية و«هاوردز» الإنجليزية أجنحة خاصة إلى جوار أرقى التحف والمقتنيات الفنية لكبرى المؤسسات العالمية المشهورة في فن التجليد، وهناك موقع على الانترنت لعرض هذه التصاميم.‏

مهنة آيلة للإنقراض‏

عندما دخلت الآلات على مهنة التجليد، بدأت حرفة التجليد اليدوي في الاندثار؛ حيث هرب معظم عمالها إلى المصانع الآلية، أما في بعض المدن الكبرى مثل حلب ودمشق والقاهرة وتونس اكتفى أقلية من حرفيي التجليد بالفتات الذي يأتي من هواة جمع وحفظ نوادر الكتب والمخطوطات القديمة التي توشك على التآكل، لكن الفنان عبد الظاهر تخلى عن الأسلوب التقليدي الذي طبع الحرفة طوال تاريخها، مستفيدًا من اطلاعه على اتجاهات ومدارس التجليد في العالم، لابتكار تعديلات خاصة في تصنيع الخامات، بحيث تصبح أقرب إلى اللوحة الفنية من حيث اللون والتصميم فاتسمت تصاميمه بالابداع الفني ليصبح مجلده تحفة فنية متكاملة انطلقت من حرفة بسيطة هدفها حفظ الكتب من التآكل والتمزيق إلى فن معاصر.‏

فن الأختام‏

فن الختم من الحرف اليدوية التي كانت ضحيةً لعصر التكنولوجيا أيضا، وسيطرة الآلة التي سحقت بماكيناتها الفن والجمال، بدأت صناعة الأختام في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد لينوب عن التوقيع في المعاملات التي تحتاج إلى أوراق وتواقيع، استخدمه العالم والفقيه والأديب، وحتى من لم يحسن القراءة والكتابة، والختم هو قطعة رمزية من مادة صلبة لها ملكية خاصة وعلامات مميزة بما تحتويه من طبعة أو كتابة أو رسوم، ويقوم الحرفي بحفرها يدوياً باستخدام أدوات بسيطة بشكل مقلوب لكي تظهر عند ختمها بشكلها الصحيح وعند الاستخدام تعبر الاختام بنقشها والأثر الذي تتركه عن مالك الخاتم، كثرت هذه الأختام في عدة مدن خاصة منطقة مكة المكرمة والمدينة المنورة، استخدمها الكتّاب والمشايخ والقضاة، وعمدة الأحياء والتجار، وكان لكل شخص خاتم خاص يمهر به الأوراق، وهي بمثابة التصديق (التوقيع) على محتويات الوثيقة.‏

للأختام تاريخ عريق‏

 ساعدت الأختام في رصد الأحداث التاريخية وتشخيصها، وقدمت لنا فكرة عن الأقوام التي استعملتها، حيث اخترع الإنسان الختم في الألف الخامس ق.م، وصنعه بداية من الحجر الطري والطين على أشكال مختلفة منها المثلث، والهرم، والفأس، والريشة، والمخروط، والمنجل، أو على شكل حيوان، وفي طرف الختم ثقب لتعليقه حليةً أو تميمة بالمعصم أو العنق.‏

    قد يكون الختم على شكل قرص، أو أسطوانياً، سطوحه مستوية أو محدبة، ومنقوشة أو عليها رسم معين، أما في العصر الحجري الحديث استخدم الإنسان الختم تميمة لحماية نفسه، وعليها رسوم تدل على الصيد، والرعي، وأشكال هندسية ونباتية وحيوانية، وأول من استعمله سكان بلاد الشام، ومع بدء نشوء الممالك  كانت الأختام رديئة الصنع،  ثم اتجه صانعوها نحو تحسينها، ونقش الموضوعات الهامة لديهم بأشكال متناظرة، وبجانبها اسم صاحب الختم أو رسمه وهو يتعبد.‏

    وفي العصر الأكادي أصبح رسم الختم باسم صاحبه تقليداً، واحتل موضوع تصوير الأرباب على الختم أهمية خاصة كذلك البابليون والآشوريون، وفي العصر الكاشي كتب على الختم مقاطع من الصلوات أمام رجل متعبد.‏

    وكانت أختام الميتانيين، والآشوريين  متميزة وتحمل صورة شجرة بين حيوانين، أو ضفائر، أو قرص الشمس، أو غير ذلك، في حين فقدت هذه الأختام أهميتها لدى الآراميين لأنهم كتبوا على الحجر، والجلد، وورق البردي، أما الكلدانيون فاستعملوا الختم الأسطواني والختم القرصي المزين سطحه، وقلد الأخمينيون أختام حضارة بلاد الشام، والرافدين، في الوقت الذي انفردت حضارة مصر القديمة بصنع الختم على شكل «الجُعَل» وهو «خنفس الزبل»، تمثيلاً للمعتقد المصري «الخلق من العدم»، واستخدم الختم حلية وتميمة، بشكله الأسطواني بتأثير من حضارة بلاد الشام.‏

    أما الممالك اليونانية فقد استخدموا الأختام للأعمال الاقتصادية، ولتحديد الملكية وكان الختم والخاتم صنوين في بلاد الإغريق، لأنه يستعمل حلية للأصبع وختماً للوثائق.‏

    وفي عصر الإسكندر الكبير: أصبح الختم على شكل «الخنفس»، ثم دخلت الأختام إيطاليا، حيث تأثرت صناعة الأختام فيها بصناعة النقود وأصبح الختم سلعة دعائية، أيضا للأختام تاريخ في الصين وآخر في الهند.‏

الأختام في الحضارة العربية الإسلامية‏

    أخذ العرب الختم بشكله التقليدي، دون التصوير عليه، واتخذ الرسول محمد (ص) خاتماً من وِرق (فضة)، وكان نقشه «محمد رسول الله»، وتناقله كل من أبي بكر وعمر وعثمان الذي وقع منه في بئر «أريس»، وكان نقش خاتم أبي بكر الصديق «نِعْمَ القادر الله»، ونقش عمر بن الخَطاب «كفى بالموت واعظاً»، ونقش الخليفة عثمان بن عفان «آمنت بالذي خلق فسوى»، ونقش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «الله الملك الحق»، وفي العهد الأموي أمر الخليفة معاوية بن أبي سفيان بختم الرسائل، ثم صنعت الأختام الزجاجية ذات الوجه الواحد للمكاييل والأوزان، وأنشأ العباسيون «ديوان الخاتم»، الذي يتبع ديوان الرسائل، وأصبحت الأختام مزينة بالأحجار الكريمة المنقوشة، فقد كانت تختم بها أوامر العفو والأمان.‏

    في ذلك الوقت كانت الخواتم تنقش بأنواع الخطوط الجميلة، وتحمل آيات من القرآن الكريم أو عبارات الحكم، والألغاز، والمعميات.‏

مهارة الخطاطين ميّزت الأختام العربية‏

في العصر المملوكي اخترعت طرق لختم الرسائل بالشمع الأحمر. وظهرت «الطرة»، و«الطغرة».‏

كانت مهارة الخطاطين وبراعتهم في النقش تقاسان بنوع الأختام التي يصنعونها وقد تميزت الأختام العربية عن غيرها باستخدام الكتابة والنقوش الزخرفية والنباتية، والخطوط مثل الخط الكوفي القديم، والخط الفارسي الانسيابي لسهولة حفره، ونقشت الأختام الدقيقة بالخط الغباري، في حين نقشت الأختام الكبيرة كأختام المحاكم والإجازات الصوفية والعلمية والمراسيم (الفرمانات) بخط الطغراء والخط الديواني الجلي، والثلث وغيرها وكان الخطاط هو صانع الختم، وكاتبه، ومن ينقشه.‏

    بينما في أواخر العهد العثماني بدأ استخدام الأكاسيد، والأحماض الكيماوية في صناعة الأختام، وفي العصر الحديث بدأت الأختام المعدنية، والحجرية تختفي، وحلت محلها الأختام المطاطية، وانتشرت  المكننة الآلية في صناعتها، ومن ثم ظهر الختم المعدني النافر.‏

بعض الدول استعاضت عن الأختام بالرموز والأرقام السرية، وأشعة الليزر وغيرها.‏

  ولو تأملنا  الأدوات التي كانت تستخدم في صنع الأختام مثل الإزميل، والقلم الحاد المعدني، والمبرد، والمثقب اليدوي لوجدنا أنها بذاتها استخدمت في قسم الحفر في كلية الفنون الجميلة مؤخرا ونتج عنها أعمال فنية غاية في الروعة والإبداع ثم كستها ألوان بأيدي فنانين احترفوا الفن التشكيلي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية