|
ثقافـــــــة قوله هذا المثبّت بالفعل والمعزز بسياسته الحكيمة، كلّفت قداسته سنتين كاملتين في المنفى..ومواقف شريفة لعملاق يحترم نفسه، وبإيمان لم يتزعزع.كان «بابا شنودة» الثالث رمزاً للإخلاص والإيمان والتقوى والأخلاق الحميدة والسيرة الحسنة. مبادؤه، أقواله، ومواقفه المشرّفة رافقته مدى الحياة، من المهد إلى اللحد، ظلّ حزيناً على القدس، بعيداً جسدياً عنها، لم يطأها تحت نير الاحتلال. كان يصلّي للظالم بقوله: «سامحه الله» وللمظلوم: «الفرج قريب». قداسة البابا: «إذا ما اندفعت الجماهير، أبناء ملّتك وغيرهم، زرافات ووحدانا لوداعك: مسجى أو جالساً، أو في لحدك. غير آبهين بالأخطار التي أودت بحياة البعض، مضحّين حتى الموت، لم يكن مستغرباً من الشعب القبطي، إذ عرفت عن تفاني أفراد هذا الشعب وإخلاصهم لزعيمهم وأبيهم الروحي، واعين بتضحيته بالغالي والرخيص، أباً رؤوما، لكل إنسان، جدّاً لكل طفل، وملجأ لكل محتاج. «البابا شنودة»، تزوّد بالعلم والمعرفة، بالتاريخ، بالعلوم الدينية، بالفلسفة، بالدراسات الانسانية، ترهّب وعاش حياة رهبانيّة، نسكا، زهداً وتقشّفاً، لاهوتاً وعلوماً إنسانيّة، وعرفته أيضاً شاعراً، ناظماً للسهل الممتنع لنيّف وعشر سنوات، حافظاً وراوياً لشعراء مشهورين، من أقواله: غريباً عشت في الدنيا غريباً في أساليبي بعيدا عشت في الدنيا نزيلا مثل آبائي وينهي بقوله: «سعادتي في المحبّة والوجود مع الله». «لن ندخل القدس...» قولك المأثور، رافقك مدى الحياة، من المهد إلى اللحد، وقفت حزيناً بعيداً عن كنيسة المهد، بعيداً عن الأقصى..وإيمانك بمواقفك وبأقوالك لم يتزعزع. أصغيت إلى آرائك وأقوالك مراراً وتكراراً، ولا يمكنني أن أنسى بأي ترحاب اَستقبلت في بطريركيتكم العامرة في القاهرة بعد أيام قليلة من عودتك من ذلك المنفى، وكأن شيئا لم يكن، وكنت بشموخك الأدبي والمعنوي تردد: «ليسامحهم الباري تعالى وليغفر لهم ذنوبهم»..كبيراً، عظيماً كنت حتى في المنفى وفي مواقفك وتواضعك وإيمانك. أسمح لنفسي الآن بالعودة إلى الذاكرة، إلى بعض ما نشرت أو لم ينشر، زيارات قداسة البابا شنودة الثالث إلى سورية بعد المنفى تتكرر، لقاءات بالرئيس حافظ الأسد سنة 1997 وثم الرئيس بشار الأسد والسلطات الدينية، وزير الأوقاف وسماحة مفتي الجمهورية المغفور له الشيخ أحمد كفتارو، ولقاءات عمل مشترك بدعوة من رئيس «الكنيسة التوءم» السريان الأرثوذكس، قداسة البطريرك زكا الأول عيواص. ها أنا ذي أعود إلى وثائق سجلتها، منها ما نشر، إذ توضح بعض الصفات الإنسانية الحميدة التي تحلّى بها فقيدنا الغالي والتي فقدته قضايانا المحقّة وحقوقنا المسلوبة. قبل زيارة قداسة البابا شنودة الثالث، شهر نيسان 1997 إلى دمشق، تلقيت مكالمات من سفير فلسطين الأستاذ «محمود الخالدي» ومن سيادة اللواء «طارق الخضراء» ومزيد من الاتصالات، الهدف واحد والاقتراح نفسه: دعوة قداسة البابا شنودة الثالث لزيارة «مخيّم اليرموك» في دمشق وإلقاء كلمة من قبله على منصّة مركز الشهيدة «حلوة زيدان» وزيارة «جامع أبو النور»، كان تكليف بالمهمة المذكورة طبيعياً بصفتي مؤسسة مكتب مجلس كنائس الشرق الأوسط في سورية ومديرته منذ عام 1974. على الرغم من أن البرنامج كان أعد، سرعان ما أقدمت، ناقلة رغبة سماحة مفتي الجمهورية، وزعماء فلسطين، الملحة، عبر الهاتف، والتأكيد على هذه الرغبة برسالة خطية سريعة. كان جواب قداسته الآني سريعاً: لم لا؟ موافق بدون تردد، «سكان المخيم كلهم أبناؤنا، طلبي أن تدخلي الموضوعين في البرنامج الرسمي حتى لو اقتضى تمديد إقامتي والوفد المرافق لمدة يوم..سماحة مفتي الجمهورية أخ لي». في الخامس من أيارعام 1997 وفي الساعة المحددة مساء وصل قداسة الباباشنوده الثالث الى محيط المخيم وحالت الجموع المحتشدة دون المضيف و السيارة، سيارته وسيارات الوفدالمرافق والمراسم.. فترجّلا لبطريرك وصحبه على بعد مئات الأمتار من مركز «الشهيدة حلوة زيدان».. وسار وسرنامعه بموكبه محاطاً بأفراد الشعب حملة الشموع المضاءة.. يرددون: «بالروح، بالدم، نفديك ياشنوده» فلسطينيين.. أم دمشقيين شباباً، كهولاً وأطفال.. كلهم سواسية، منظرلايصدق.. التصفيق على قدم وساق.. استقبال رسمي وشعبي، وأمن غاية في الكياسة.. كانت كلمة ترحيب.. على المنصة.. والأهم ترحيب الشارع تلقائياً بدون إيحاءمن أحد.. وبدون أوامرآتية من جهة عليا.. أومن زعامات، أومن مسؤولين.. المحبة والترحاب والضيافة أتت طبيعية، ولذاكانت غاية في الجمال،.. لقاء جماهيري مع فلسطينيي مخيم اليرموك. قداسة الباباشنوده الثالث، باباالاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر.. يعتلي المنصة بتصفيق كان من الصعب توقيفه، ولكن! ماإن بدأبالكلام حتى فوجئنا بصمت وإصغاء لم نتوقع.. والآن أقتطف بعضاًمن كلمة قداسة الباباشنوده الثالث التي ألقاها افي مركز «الشهيدة حلوة زيدان»: بسم الله الواحدالذي نعبده جميعاً أحييكم ياأخوتي: أشكركم على هذه المحبة وعلى هذاالترحاب، والأصوات التي كنت أسمعها اليوم لاشك أنها قدصعدت الى الله تصرخ إليه طالبة منه العون. نحن حينما نتكلم عن الحركة السياسية في فلسطين إنما نهدف الى أن يكون للفلسطينيين دولة مستقلة ذات سيادة، لها كل طابع الدولة، وليس من الإنسانية في شيءأن يترك شعب عريق بلاوطن، لهذاكان سبب الاضطراب في الشرق الأوسط، إن الفلسطينيين بلاوطن، وممالايريح النفوس، أن تنادي اسرائيل بالقول بأنه لن يكون هناك دولة لفلسطين. فلنقبل منها هذا التحدي... وبعد هذه المقدمة كانت لمحة تاريخية منذ عام 1947-1948-1967 (النكسة) – الانتهاكات داخل القدس – التنقيب تحت المسجد الأقصى – حفر الأنفاق..إلخ. الحل الذي أراده البابا شنودة هو أن يتحد العرب جميعاً، وأن يقفوا وقفة رجل واحد إزاء السياسة الإسرائيلية لاسترجاع الأرض، ويضيف: «إن تفكك العرب هو أكثر سلاح تستخدمه إسرائيل، أكثر من القوة النووية، وطالما ظل العرب على هذا الوضع فإن إسرائيل تستمر في إجراءاتها ولا تأبه بالكلام ولا الخطط ولا تأبه بالشجب ولا بالإدانة. المسائل تحتاج إلى إجراء عملي قوي ووقفة العرب وقفة رجل واحد إزاء الأمر». وبعد أن يضرب أمثلة عديدة من التاريخ ومنها الهنود الحمر وأميركا، الدولة الرومانية وكيف ثمة حقبة حكمت فيها كل أوروبا... هل تعود إلى حكمها وحكم تركيا؟ بادعاء أنها صاحبة حق؟ ثم المطلوب: سياسة عملية عربية، الكلام لا ينفع ولا يخرج اليهود من بلادنا، الذي يخرجهم حتماً، وحدة العرب، أن يكونوا وحدة واحدة وخطاً واحداً وسياسة واحدة ومنهجاً واحداً وقوة واحدة وأن يقف الله معهم.. فلا يستطيع اليهود أن يقفوا في وجهنا. «لن ندخل القدس إلا مع اخواننا العرب والمسلمين». «حكم العرب القدس بدءاً من عام 632 ميلادية لمدة ثلاثة عشر قرناً، ثم جاء اليهود يدعون أنها عاصمتهم، يدعون أنها أرض الميعاد ويقولون: إنهم عاشوا فيها بوعد من الله وأنا أقول لهم: أنهم جاؤوا ليس بوعد من الله بل بوعد بلفور». أما عن فكرة الشعب المختار، إن الله عزّ وجل اختار الناس أيام الوثنية وعبادة الأصنام ولم يكن بينهم من يعبد الله، أما الآن، فهل من المعقول أن يترك الآلاف/الملايين والمليارات الذين يعبدونه ويتخصص في ثلاثة ملايين؟ احتلّوا بالقوة «أرض فلسطين»؟ أما عن السّلام فيقول قداسته: «السلام الحقيقي لايأتي بإخضاع الغير، والسلام الحقيقي لايأتي بالتهديد، ولا يفرض بالقوة العسكرية، ولا باستخدام الأسلحة النووية الفتّاكة المدمرة. ها نحن اليوم، بعد خمسة عشر عاماً ونيّف من زيارة الزعيم الديني القبطي التاريخيّة إلى دمشق، وإلقائه محاضرة، بل درساً توجيهياً روحيّاً عمليّاً إيمانيّاً. هل غدت الدولة العربية المنشودة تنطق بصوت موعد، أو تناضل من الخندق الواحد، هل تقدم هذه الدول على المضي بأفعال تضامنية، تمجّد معها بل تقدّس المسجد الأقصى وكنيسة المهد، والمقدّسات التي لايحق لمسها إلا بالروحانيات والتمجيد والسجود، وإضاءة الشموع، وتقديم النذورات من المؤمنين جميعاً على اختلاف طوائفهم، دياناتهم، مللهم ومعتقداتهم؟ قلت متفائلة ومؤمنة بأن التضامن العربي خلاص لنا! والآن ماذا أقول؟ والعرب مشرذمون مقسّمون متحاربون بالكلمة، وبما هو أمضى من السلاح، بالدمار المعنوي والعملي. نفتقدك أيها الزعيم الإنساني الوطني، وأنت تواجه ربّك بعيداً عن التصارع والهجاء الكلامي بين العرب، وبعيدا عن الأسلحة المتبادلة بينهم، أقول بين الأخ والشقيق وما يهرّب منها عبر الحدود.. وتحضرني قصيدة ألقاها الشاعر العملاق «عمر أبو ريشة» في قاعة الأونيسكو في بيروت يرثي فيها «الأخطل الصغير»، ومما يقول عن الفرقة والخلافات بين الزعماء: خافوا على العار أن يمحى فكان لهم «على الرباط» لمحو العار مؤتمر كما أذكّر بما يتلاءم مع وضعنا: قتل فرد في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر |
|