تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عن حروف الجَرّ

إضاءات
الاحد 22-9-2019
د. ثائر زين الدين

البارحة بينما كنتُ أدقِّقُ قِصّةً قصيرةً مُترجمةً عن الفرنسيّة قبلَ دفعِها إلى المطبعة قلتْ لصديقي المترجم: (الأفضل أن تقول في هذا الموضِع: تَعَرّفتُ إليه، وليسَ تَعَّرفتُ به، لأنَّ الأولى تعني:

جَعَلَهُ يعرِفُهُ أما الثانية فتعني: صارَ معروفاً عنده... والأقرب لحالتنا هنا أن نقول: تَعرّفتُ إليه، وهنا تَدخَّلَ صديقُنا أستاذ النحو والصرف وكان يستِمعُ إلينا فقال: لعلَّ الأفضلَ والأقوى أن نقول: (تَعَرَّفَهُ) سألناهُ مَعاً: (لماذا)، فتابَعَ يقول: (تَعرَّفَ الشيءَ: تَطَلَّبَهُ حتى عرفَهُ)، ضحكنا سويّةً وقد أدرَكَ كُلٌّ منا الوَجهَ الطريفَ في الأمر...‏

لكن هذهِ الحادثة التي تمرُّ بمن يكتب عشرات المراتِ ولا سيّما الكتّاب والشعراء أعادتني إلى بحثٍ قديمٍ كتَبهُ ذات يوم الأستاذ صلاح الدين الزعبلاوي، ونشرته مجلّة مجمع اللغة العربيّة بدمشق في عدد تمّوز 1980، وقد افتتحَ الأستاذ الزعبلاوي بحَثهُ المذكور بمِقطع كثيف التعبير عن كيفيّة تدبّر الكاتبِ مع حروف الَجرّ؛ يقول: (ليسَ شيءٌ أولى بالتدبُّر، وأحق بطول الدُربةِ والدراية، من استعمالِ حروف الجر. إذ لا يكفيكَ للتثبّتِ من صحةِ اختيار الحرف، لتصريف الفعل في معنى من معانيهِ، أن تعودَ إلى المعاجم وَحْدَها، بل لا يجزيكَ حيناً أن تقفَ، في كتبِ النحوِ، على ما يطرد فيه استعمال كل حرف، أو يغنيكَ أن تطلع على ما يتصل بذلك من علوم اللغةِ غير النحو، أو تضرب بسهمٍ في تصفّح كتب الأدب نثره وشعره).‏

ذلكَ أنّهُ لا بُدّ لإحكامِ استعمالِ هذه الحروف من أن تعلق من كل ذلك بسبب وتحظى بطائلٍ، فيتحَصّل بمطالعتك هذهِ ومدارستك ما يُبصِّركَ بتصريفِ هذهِ الحروف وإجرائها في مجاريها، ويفقِّهكَ فيما يكونُ لها من شأن في تحديدِ معاني الأفعال، ومن أثر في تغييرِ دلالاتها، فيتسنّى بهذا تمييزُ صحيح القول من فاسده...).‏

ثُمّ يسعى بعد هذهِ المقدِّمة إلى الحديثِ في جملة ضوابط يُسترشَدُ بها في هذا الباب ولعلَّ من أهم ما يقفُ عليه الأستاذ الزعبلاوي فكرة مفادها أن الفعل إذا ما عُدّيَ في المعاجم بحرفٍ فليسَ يلزم من هذا ألّا يتعدّى بسواه إذا اقتضى معناهُ ذلك؛ ذلك أن الفعلَ الواحد - كما عَبّرَ الإمام السيوطي - قد يتعدّى بعدةٍ من حروف الجر (على مقدار المعنى المُراد من وقوع الفعل. لأنَّ المعاني كامنة في الفعل، وإنّما يُثيرُها ويُظهرُها حروف الجر)، ويضربُ السيوطي مثالاً على ذلك فيقول: (ذلك أنّكَ إذا قُلتَ خَرَجتُ فأردتَ أن تبيّنَ ابتداءَ خروجِكَ، قلتَ: خرجت من الدار، فإن أردت أن تبين أن خروجك مقارن لاستعلائكَ، قلتَ: خرجتُ على الدابة، فإن أردتَ المُجاوزة للمكان قُلتَ: خَرجتُ عن الدار، وإذا أردتَ الصُحبَةَ قُلتَ: خَرجتُ بسلاحي) وهذا يوضِّحُ أنّه ليس يلزم في كُلِّ فعلٍ ألا يتعّدى إلا بحرف واحد، وقد فَعَلَ الأستاذ الزعبلاوي الأمَرَ نفسه في أمثله كثيرة في كتابهِ (أخطاؤنا في الصحُفِ والدواوين)، ومن ذلك أنّه مضى في تصريف فعل (أجابَ) بعدةٍ من الحروف سعياً منهُ لإبراز وجهة الفعل في كل حرف؛ فكتبَ: (أجبتُ في الكتاب، وبالكتاب، وأجبتُ عنك، وعلى ورقةٍ بيضاء، ولأمرٍ مُهمٍّ، وعن الأسئلةِ من أوّلها إلى آخرها)، وكل ذلك على جهةِ القياس والاطراد؛ وهذا يؤكّد أنّه لا بد في اختيار الجار من أن يأخذَ المرءُ فيهِ بالسماعِ والقياس...‏

تابعتُ قراءةَ البحث الذي يقعُ في نحو 60 صفحة والذي تابَعَ فيه الباحث تقصّي وجوه استخدام حروف الجر، فما خَرجتُ منُهُ إلاّ وأنا أشعُرُ بالدوار، لكن بالسعادةِ أيضاً وقد كانَ جُلّ قصدي أن أعاونَ على تذليلِ الصعوبة في استخدام حروف الجرِّ، وأساعد على تيسير الأمرِ، وقَررتُ - أنا وزملائي - أن نُصْدِرَ كتاباً يَضَعُهُ أحد أساتذتنا الكبار في هذا الباب، ويكون عوناً لنا جميعاً أدباءَ وشعراء وباحثين... وقبل كل ذلك محبّينَ للغة العربية الساحرة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية