تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عندما يتحول الزمن إلى تاريخ

آراء
الاربعاء 13 /9/2006م
د. سمير اسماعيل

ان الزمن هو التيار الساري للوجود. بمعنى انه يتخلل وجودنا ووجود الاشياء جميعا. لكنه يتحول الى تاريخ حالما ترتقي افعاله الى المستوى الذي يجعلها قادرة على وضع الماضي والمستقبل على محك الرؤية النقدية.

بمعنى حالما تكون الاحداث ونتائجها مرآة لرؤية النفس ومعيارا لتقييمها. وهو الامر الذي جعل من الايام الستة لعام 1967 (تاريخ الهزيمة والنكسة) وغرسها في مرآة النفس العربية ومعيار رؤيتها لذاتها. وطبع بالتالي مجمل مكوناتها (التاريخية)‏

وقيمها الخربة من شعور الانكسار والهزيمة وضعف الارادة. وهي حصيلة كانت تنتج وتعيد انتاج الزمن, اي الاجترار الفارغ لكل شيء. بحيث تحول الصراع حول القضية الكبرى والجوهرية للعرب مع الغزو الصهيوني الاستيطاني لفلسطين واحتلال الاراضي العربية الى صراع فارغ, لانه لم يكن اكثر من كلام وخطاب بلا فعل. وهي النتيجة التي عادة ما تتراكم في (تاريخ الهزيمة). بينما التاريخ الفعلي هو احداث متراكمة في وعي الذات القومي.‏

فالهزيمة لا تصنع وعيا ذاتيا. لكنها يمكن ان تتحول الى جزء من تاريخ الفكرة الصاعدة والموعدة بنتائج ايجابية حالما تصبح جزءاً من نقد ذاتي عقلاني وعملي شامل. وهي المعاناة التي دفع العالم العربي ثمنها الباهظ على مختلف المستويات من اجل(التعويض) عن (زمن الهزيمة) (لعام 1967) بقدر صغير من (تاريخ الانتصار) (لعام 1973). وهو الامر الذي اعطى لحزيران مرارة شديدة ولتشرين حلاوة باهتة. وهي حقائق تبرهن على انه في مراحل الصراع العنيفة والدموية والشديدة, اي في حالات الصراع الكبرى و(المصيرية), عادة ما تقف الشعوب والامم والدول امام مفترق طريق, وهو اما ان تعيد اجترار الزمن واما ان تعمل على صنع تاريخها الخاص. ولكل منهما نتائجه وآثاره في الحاضر والمستقبل.‏

فاجترار الزمن (عندنا) يعني صناعة التاريخ (عندهم). والعكس بالعكس. فقد ادت هزيمة 1967 الى صنع زمن العرب الضائع والتائه والخرب وما ترتب عليه من قيم الانكفاء والاستعداد للهزيمة ومختلف رذائل النفس الخربة على مستوى الدولة والمجتمع والنخب. وهو الشيء الذي يفسر سر الغرابة (اليسارية) و(العقلانية) التي جعلت من(اجتهادها) في مجرى الحرب الاخيرة بين قوات الغزو الصهيوني - الامريكي والمقاومة اللبنانية بشخصية حزب الله, اسلوبا لعقلنة الهزيمة وتحويلها الى شعار (المعركة الناجحة)!! بمعنى ان هذا السلوك الغريب والمغترب من ابسط مكونات ومقومات الاحساس والادراك الوطني والقومي والانساني, ما هو الا النتيجة غير المدركة لزمن الهزيمة. فالاخيرة لا يمكنها ان تصنع تاريخا, اي رؤية قادرة على ادراك حقيقة المستقبل بوصفه تضحية. وذلك لان المستقبل تاريخ, اي تراكم في القيم الايجابية الكبرى ومؤسساتها.‏

وتجارب الامم الناجحة في كل مكان وزمان تبرهن على ان تاريخها الكبير هو تاريخ التضحيات الكبرى. بمعنى ان عظمة التاريخ والمستقبل محكومة بعظم التضحيات من اجلهما. ولا شيء اخر! لانه لا شيء بدون ذلك يمكنه ان يحدث! وهي بديهية حالما تتحول الى موضوع للشك والجدل, فانها تصبح عصية على الفهم والادراك. وهو الامر الذي يجعل من (الاجتهاد) فيها فعلا اقرب الى الرذيلة. فالاحداث الكبرى تفترض الفعل وليس الثرثرة (العقلانية) الفارغة من ابسط مقومات العقلانية الفعلية. وذلك لان حقيقة العقلانية هو تأسيس للبدائل والعمل بمعاييرها. والبدائل هي جهود نظرية وعملية تؤسس للاستعداد والقدرة على مواجهة الصعاب وليس تحسين وتجميل قبح الهزيمة والخوف والجبن. وليس حجة الحفاظ على (البنية التحتية) مقابل تخريب بنية الروح, سوى الصورة النموذجية التي تعكس اولا قبل كل شيء قيمة الزمن وليس قيمة التاريخ.‏

وليس مصادفة ان يتخذ الصراع في مجرى الحرب الكبرى بين قوات الغزو الصهيوني الامريكي وقوى المقاومة اللبنانية, صيغة وابعادا ليست معهودة في غضون ربع القرن الاخير, اي بعد الغزو الصهيوني للبنان. فقد جمد الصراع وانزوى, بعد الغزو الصهيويني للبنان عام 1982, في محاور(صغيرة) كانت تستجيب لمصالح اغلب النخب العربية الحاكمة وذلك بسبب عيشها بمعايير الزمن, اي اجترار السلطة والعيش بمقاييسها. لكنها حالة لم يكن بامكانها الاستجابة لمكونات وعوالم التاريخ العربي وقواه الحية, كما انها كانت تتنافر مع فكرة الحق والشرعية والمستقبل. فقد كانت تنشأ وتنمو وتتطور حركات من (القاع) تعيد انتاج التاريخ الفعلي للامة. فالامم الكبرى لا تقف الا حالما تقف عند حدودها. ولا حدود لاكتمالها في الزمن وعوالمه الخربة من الهزيمة. بعبارة اخرى, ان الحدود الوحيدة الممكنة هنا هي حدود التاريخ, اي المستقبل. وعندما جسدت المقاومة اللبنانية انتصارها الاول بطرد قوات الاحتلال من الجنوب اللبناني, فإن القضية بدت عابرة بمعايير النخب الخربة والحكومات الاكثر خرابا. لكنها بقيت تحز في اعماقها بسبب تحسسها الغريزي بامكانية سحب (المبادرة التاريخية) منها. وهي المدركة لافتقادها للتاريخ. وفي هذا يكمن سر الهجوم المستمر لحد الان على حزب الله والمقاومة اللبنانية التي استطاعت للمرة الاولى فعلا تحويل الايام ال33 الى تاريخ الانتصار التاريخي الفعلي. وبهذا تكون قد قدمت الدرس الاولي الكبير للحقيقة القائلة بان تحويل الزمن الى تاريخ يفترض الصراع من اجله. وصراع ينبغي ان تقوم به قوى بمستواه. وللمستقبل قواه الخاصة, اي القوى التي تحتوي في اعماقها على امكانية صنع تاريخ جديد, او تاريخ ذاتي يتمثل ادراك الحقائق والبديهيات الكبرى للانتصار.‏

*عميدكلية العلوم السياسية‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية