تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


فتحي محمد في ذكرى رحيله... النصب التذكارية في مسيرة نحات رائد

ثقافة
الأثنين 7-5-2012
أديب مخزوم

تمر في هذه الايام الذكرى السنوية الرابعة والخمسين لرحيل الفنان الكبير فتحي محمد، أحد أهم الفنانين السوريين الرواد، واكثرهم موهبة وقوة ومتانة في الرسم والنحت معاً، والذي ترك العديد من النصب النحتية والتماثيل واللوحات، التي تنبض بالحيوية والاتقان والادهاش

، من ضمنها نصب الشهيد عدنان المالكي، الذي يجدد في قلب ساحة المالكي بدمشق، حيوية المناخ البطولي المحلي، ويبدو بمثابة الانجازالكامل الذي يعكس التطلعات الفنية النصبية الريادية، ويجسد الحركة الحيوية في المواضيع الرمزية الوطنية.‏

ركائز الانطلاقة الأكاديمية‏

ولقد تتلمذ الفنان الرائد فتحي محمد على يد منيب النقشبندي، وكان الطالب الوحيد في مدرسة التجهيز، الذي يحوز على العلامة التامة في مادة الرسم، ولقد عرف مرارة الفقر والبؤس واليتم منذ بداياته، الشيء الذي دفعه إلى ترك المدرسة والاتجاه نحو مزاولة بعض الأعمال التي ساهمت في بلورة ميوله ومواهبه الفنية، وذلك لأن الحرفة التي مارسها وهي نحت الخشب وحفره وإدخاله في ديكورات الأبواب والمنازل، شكلت بالنسبة له المدخل لإيجاد المزيد من الإحساس المتصاعد بجمالية الإيقاعات النحتية الجدارية، على أساس أن حرفة حفر الألواح الخشبية، تحمل مواصفات فن «الرولييف» الذي يعكس الرؤى الإبداعية الملموسة، وتساعد بالتالي في اكتشاف تقنيات وأبعاد النحت الفراغي، الذي سرعان ما أصبح أحد أبرز أعلامه عندما ذهب إلى روما، للدراسة في أكاديميتها الفنية.‏

وبالعودة إلى المرحلة التي سبقت سفره إلى روما نشير إلى أن فتحي محمد زاول الرسم الكاريكاتوري الساخر في جريدة النذير، كما عمل في مجال الرسم الموجه للأطفال، وفي تصميم أغلفة بعض الدواوين الشعرية، وفي تلك المرحلة كان قد تعرف على غالب سالم، الذي كان على حد قول د. سلمان قطاية، أول طالب سوري يدرس الفن في أكاديمية روما للفنون الجميلة. وفي العام 1937 يعود وهبي الحريري قادماً أيضاً من مدينة روما، الشيء الذي يجعله أكثر إحساساً بإمكانية تحقيق حلمه بالقدوم إلى روما، عاصمة الفن لقرون عديدة، ففي متاحفها وكنائسها تتوزع أروع الأعمال الإبداعية لفناني عصر النهضة الإيطالية.‏

هكذا هيأت فرصة تعرفه وتتلمذه على أيدي غالب سالم ووهبي الحريري المدخل لاستشراف الآفاق الرحبة في العمل الفني، وزيارة مدن الفن الكبرى في إيطاليا. إلا أن أحلامه ما لبثت أن أظلمت من جديد في أواخر الثلاثينيات، حين سحبت السلطات الفرنسية جواز سفره، بعد أن فاز في البعثة المجانية للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة العليا في روما.‏

ولقد شكل تمثال أبو العلاء المعري الذي أنجزه عام 1944 لمناسبة الاحتفال بمرور ألف سنة على ولادته فرصة السفر إلى القاهرة، والالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة فيها، فمهرجان أبي العلاء الألفي الذي أقيم في دمشق استقطب أعلام الأدب والفن في العالم العربي، ومن ضمنهم طه حسين، الذي تلمس بحساسيته الداخلية مدى قدرة فتحي محمد على تجسيد التعابير الواقعية بقدرة أدائية عالية، ولقد اكد تمثال أبي العلاء المعري أن فتحي محمد على مستوى عالمي بالفعل. شأنه شأن الأعمال التي سبقته، مثل تمثال الطبيب غابرييل سوفالييه، وتمثال فيضي الأتاسي، وتمثال تاج الدين الحسني.‏

بين الرسم والنحت‏

ولقد كانت فترة دراسته في القاهرة مثيرة، ومن أساتذته فيها أحمد صبري ويوسف كامل وحسين بيكار، إنها أسماء كبيرة ورائدة في الفن التشكيلي العربي، كل ذلك كان يحرضه على المزيد من التفاني والعمل وحب الفن. إلا أن الجهات المعنية سرعان ماأوعزت إلى فتحي محمد بالعودة إلى حلب، على إثر وفاة الزعيم الوطني سعد الله الجابري، والمباشرة بوضع تمثال له، ولقد أنجزه خلال عام 1948 بملامح حية وغنية بالصفات العديدة التي ميزت شخصيته الوطنية. ولشدة الحيوية التي تشير بتفوقه استطاع انتزاع قرار إيفاده إلى روما، لدراسة فن النحت في أكاديميتها على نفقة بلدية حلب.‏

وفي روما سرعان ما أدهش فتحي محمد أساتذته، حين كان ينجز بيوم واحد، ما يحتاج إلى ثلاثة أيام، حتى إنه حاز على تمثال التخرج العلامة التامة، ونال شهادة الدبلوم بدرجة شرف خلال عام 1951. وهناك حقيقة أخرى شديدة البروز والوضوح، وهي أن موهبة فتحي محمد في الرسم الزيتي لا تقل عن موهبته في مجال النحت، ونستطيع أن نجد قدرته العالية على الرسم في براعة اللمسة، ومتانة الضربة وحيوية الحركة، التي بلورت ومنذ البداية، نزعة الرسم الواقعي في مرحلة صعود التيارات الانطباعية في حركتنا التشكيلية السورية، مع الإشارة إلى أن لوحاته تستمد حيويتها وقوتها، من العفوية التي كان يضفيها على الشكل الإنساني، رغم أن تلك اللوحات تميل أكثر فأكثر نحو الأمانة الواقعية والرصانة على الصعيدين التكويني والتلويني.‏

ولقد وضع العديد من الدراسات والتصاميم المنفذة على الورق، إضافة إلى لوحات العاريات والوجوه التي رسمها بالزيت والغواش على القماش والورق، وأبرز من خلالها مقدرة على الرسم الواقعي الصحيح، ووصل إلى حدود التجاوز، بإضفاء لمسات اللون العفوي الوثيق الصلة بتأملات تيارات الفنون الواقعية الحديثة، وهكذا أكد من خلال تجسيده لعناصر المرأة، أن اللوحة الواقعية والأكاديمية، ليست فقط تصميماً متوازناً للأشكال، وإنما هي أيضاً ركيزة وخطوة تصعيدية لنغم اللون المرهف في مدلولاته البصرية المباشرة (الموديل الحي) والعاطفية غير المباشرة (اللمسة التي تحقق نوعاً من العفوية) في حدود الشكل الإيضاحي، والتي تطل في لوحاته كتعبير عاطفي متفاعل مع الأكاديمية المتحررة أو مع تيار ماقبل الانطباعية السورية، ويمكن أن تندرج منحوتاته ولوحاته، في هذا السياق ضمن الأداء الواقعي الذي يجمع بين انطباعات اللمسة الماهرة، وبراعة التأليف الأكاديمي المحوري.، ويذكر أن فتحي محمد من مواليد حلب القديمة عام 1917ولقد رحل في 16 نيسان من عام 1958 عن عمر لايتجاوز الواحد والأربعين عاماً، وهو في أوج الشباب والحيوية والعطاء والشهرة.‏

facebook.com/adib.makhzoum‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية