تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


من أعلام الأدب العربي الحديث في القصة المصرية... طه حسين - عبد الرحمن الشرقاوي

ثقافة
الأثنين 7-5-2012
ممدوح السكاف

(١)... شكل إنتاج الأجيال المتوالية من عطاء الأدباء الرواد في القصة المصرية الحديثة بمختلف أنواعها الفنية وأحجامها وذلك اعتباراً من ولادته في مطلع القرن العشرين على أيدي محمد حسين هيكل ومحمود طاهر لاشين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ

ومحمد عبد الحليم عبد الله والأخوين محمد تيمور ومحمود تيمور وانتهاء بالروائي الكبير يحيى حقي وسواهم من أساطين القصة وكُتّاب الرواية،‏

أقول شكّل ذلك كله اللبنة الأولى بل المدماك الأول لبداية بزوغ القصة العربية في مشرق الوطن العربي وفي بعض مغربه ثم تطورت مضامينها وأساليبها بمرور الزمن وتراكم التجارب مع الأخذ بالحسبان أن فن القصة كان فناً أدبياً وفد إلى الأدب العربي الحديث من الغرب الأوربي المتمدن بفعل المثاقفة بين الشعوب وإذا كان الأدباء المارّ ذكرهم أعلاه قد شُهروا على الساحة الأدبية بأنهم قاصون وروائيون لأن معظم إنتاجهم الأدبي قد غلب عليه لون واحد هو لون القصة والرواية فإن أدباء أعلاماً من الكُتاب المصريين جايلوا أجيال الأدباء الروّاد وكتبوا القصة والرواية أيضاً فيما كتبوا من محصول أدبي يضم البحوث والدراسات والنقد الأدبي والاجتماعي والسيرة الذاتية والشعر كذلك، نذكر في مقدمتهم طه حسين والعقاد وغيرهما كممثلين للتيار الإصلاحي في الفكر والأدب ومواقفهم المثالية التي صاحبت نهوض الطبقات المتوسطة وظهور مشكلاتها وأزماتها الاجتماعية وطموحها إلى تجاوز واقعها القائم بالجهد والكفاءة طمعاً بالوصول إلى السلطة والجاه والشهرة وذلك عن طريق تعليم أبنائها في المدارس وحصولهم على الشهادات المؤهلة، والروائي عبد الرحمن الشرقاوي والقاص محمد صدقي ومن دار في فلكهما من الأدباء المصريين كممثلين للتيار الثوري في الرؤية الواقعية لمفهوم الأدب الحديث.‏

(٢)‏

في الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين أخذت صورة المصلح الاجتماعي تختلط بصورة الأديب المبدع حتى كاد أحدهما يغدو وجهاً للآخر وذلك لأسباب متعددة قد يكون من أبرزها أن الاثنين يحملان على عاتقهما رسالة واحدة سامية هي رسالة تقدم المجتمع العربي في مضمار الحياة ومجابهة تخلفه بنشر العلم وبثّ الوعي في عقول العامة. وكان من جملة من قام بهذا الدور البنّاء أدباء عرب مجلّون من أمثال عبد الله النديم وفرنسيس مراش وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ محمد عبده ورشيد رضا وأديب إسحق وجمال الدين الأفغاني وأغيارهم وأقرانهم. وفي هذا السياق، يتصدر عميد الأدب العربي بأعماله الروائية والقصصية ك (دعاء الكروان) و(الأيام) و(الحب الضائع) و(المعذبون في الأرض) وسواهم، قائمة المهتمين بهذا الشأن الإنساني الملحّ من الأدباء المصلحين... أليس هو صاحب الكتاب الرائد (مستقبل الثقافة في مصر)؟... وها نحن نقرأ فقرة من قصة (صفاء) يصوّر فيها نموذجاً من الفئة المتوسطة يتطلع فيها ربّ الأسرة أن يكون ابنه موظفاً فيدفعه إلى التعلّم ليجد سبيله إلى الوظيفة «وقد طمع الأب في أن يرفع ابنه عن المنزلة التي كُتبت له هو في الحياة فلم ينشئه في التجارة ليخلفه على الحانوت حين تقعد به السن وإنما أرسله بعد أن أنهى تحصيله في المدرسة الابتدائية إلى القاهرة ليتعلم في بعض مدارسها وليكون موظفاً من موظفي الحكومة وليسلك بنفسه طريقاً جديدة غير الطريق التي سلكها هو وسلكها أبوه من قبله».‏

وفي قصة أخرى لطه حسين عنوانها (صالح) نراه يعالج فيها مشكلة شقاء الأولاد الفقراء وما يعانونه من بؤس يسوق أغلبهم إلى التردي في مهاوي الرذيلة والجريمة أو إلى السجون والقبور... لقد كانت طفولة (صالح) غير طفولة رفيقه في المدرسة (أمين)... هذا عاش في بيت سويّ ميسور يظفر من أهله بالهدايا والترفيه ويلبس أجمل الثياب. أما (صالح) فقد تفرّق أبواه وساءت أحواله وشقي بعيشه... «نظر الصبي أمين إلى صالح فراعه ثوبه الممزق وقد انشق عن كتفيه فظهرتا نابيتين والثوب رثٌّ كأنه أسمال قد وصل بعضها ببعض وصلاً ما، يمضي به (صالح) متجرداً شبه عريان، وكان الطفل صالح يلقى في الكُتّاب القسوة من معلّمه بالضرب المبرح لأنه فقير، وكان حسّاساً فلم يحتمل قسوة الحياة فأردى نفسه».‏

ويأتي تشرّد الأولاد وجهاً آخر لشقاء الأولاد، كما يرى بعض الأدباء الإصلاحيين هذه المسألة... إن الجوع الذي ينهش الأحشاء يدفع البطون الصغيرة أن تبحث عن لقمتها خارج البيت حيث الرذيلة والجريمة... يتسكع الصغار مشرّدين بلا جناح يُظلّهم ولا كنف يحميهم، فراشهم الأرض العراء ودثارهم جوّ الفضاء ومآلهم في الطريق العاثر إلى الموت أو الجريمة.‏

أما الأدباء الخلّص فلقد ألقوا وزر شقاء الأولاد على المجتمع وحملوه مسؤوليته ورأوا في مأساتهم كارثة وطنية واجتماعية وعالجوا هذه المشكلة بالدعوة الحارة إلى رعاية الأطفال والعناية بأمرهم لإنقاذهم من ويلات الشقاء وإنقاذ الوطن من عواقب ضياعهم الوخيمة. ولا شك أن مثل هذه المعالجة القاصرة من قبل غالبية الأدباء الإصلاحيين لقضية شقاء الأولاد وتشرّدهم إنما تنبع من رؤية مثالية ليست مرتبطة بالواقع وبضرورة إقامة نظام سياسي عادل يحمي المجتمع من الاستغلال والتفاوت الطبقي ويوفر لأبنائه حياة كريمة.‏

(٣)‏

ترى طائفة من نقّاد أدبنا الحديث أن المجتمع العربي أخذ يشهد تطورات سياسية واجتماعية عميقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وما تلاها من سنوات عاصفة راحت فيها حركات الكفاح السياسي تتضمن محتوى اجتماعياً فالتحم التحرر السياسي من ربقة الاستعمار بالتحرر الاجتماعي من سطوة الاستغلال في رؤية قومية إنسانية متحدة وبعد أن اشتد التآمر الاستعماري على الوجود العربي راحت الطليعة المثقفة من الطبقات المتوسطة والفقيرة تشعر بعجز النزعات الإصلاحية وعقم صيحات الغضب العاطفي والاحتجاج عن إيجاد حلّ لمآسي الاضطهاد والظلم الاجتماعي ومشكلات تخلف الوعي والفكر الناتجة عن الأمية والجهل ومع انتشار مَدّ الثقافة العربية التقدمية وتفاعل الأحداث والصراعات في خضمّ النضال الجماهيري ومع تراكم الزمن في سيرورة الانبعاث القومي الاشتراكي، أفرزت هذه الطليعة الأدبية من رحم صفوفها أدباء نما لديهم الوعي الثوري فذابت ذات الأديب في وجدان الجماعة وولد تيار الواقعية الجديدة في الأدب العربي الحديث وعبّر عن قضايا الشعب المصيرية، وقد تبدّى ذلك في الشعر خاصة. ولكن الرواية العربية والقصة القصيرة ساهمتا في هذا الميدان مساهمة كبيرة وفعّالة.‏

وفي مثل هذا الجو الحيوي الحافل بالحراك الأدبي ومعارك النضال ضد قوى الاستغلال والاقطاع كتب الروائي العربي المصري الكبير عبد الرحمن الشرقاوي رواية «الأرض» رسم فيها، كما أشارت إلى ذلك بعض الدراسات والآثار النقدية في حينه، صوراً من كفاح الفلاحين في مصر وتمسكهم بالأرض رغم عوادي الطبيعة والقهر الاجتماعي، فالأرض يتهددها الجفاف بالدمار والموت ويتهددها الإقطاع بالاستلاب وينهض الفلاحون للدفاع عن أراضيهم، يكدحون ويشقون لمقاومة الجفاف ويدخلون في معارك مع قوى القهر الاجتماعي والسياسي، فيقف الكادحون في جبهة والإقطاع وعملاء السلطة وجيش الاحتلال في جبهة أخرى فتتحدد المواقف وتنفرز القوى الاجتماعية في مواجهة تاريخية تبيّن اتجاه مسيرة التطور، ويجسد الشرقاوي هذا الوعي في «بطل إيجابي» هو «عبد الهادي» إذ يدرك هذا البطل أن أسلوب الشكاوى من الظلم والاستعطاف لاجدوى منه وأن أسلوب المقاومة والصراع مع السلطة هو الأسلوب الوحيد الذي يجب أن تدخل فيه القرية... إن عبد الهادي رجل القرية ومصدر كبريائها وأشجع أبنائها وأكثرهم جرأة وأقواهم بدناً وشهامته مضرب المثل، يملك فدّاناً يتمسك به ويعمل فيه ويسقيه بعرقه ويجد فيه منبع الكثير من صفاته ورجولته، ومن الجدير ذكره بأن السينما المصرية الحديثة قدّمت هذه الرواية في فيلم ملوّن قام ببطولته محمود المليجي وعزت العلايلي وغيرهما وأخرجه المخرج الشهير يوسف شاهين. ولقد دخلت القصة القصيرة ميدان الأدب الملتزم في مصر والوطن العربي إلى جانب فن الرواية وإذا كان الشرقاوي قد صوّر في (الأرض) كفاح الفلاحين ونضالهم في صراعهم مع استغلال الإقطاع وأعوانه فإن الكاتب المصري محمد صدقي كتب قصة قصيرة صوّر فيها وعي العمال ونضالهم من أجل مطالبهم ودخولهم في معارك ضد قوى الاستغلال وعسفها واهتضامها لحقوق العمال كما صور معاناتهم من الظلم والإجحاف مما دفعهم إلى أن يقرروا (الإضراب)، يقول بطل القصة الذي نظم الإضراب مع رفاقه «وحدث الإضراب كما اتفقنا تماماً وكانت هناك مكاسب لكن كما يحدث في كل إضراب وجدت نفسي آخر الأمر وراء قضبان من حديد، ومن بين قضبان النافذة الحديدية كنت أرى أقدام زملائي العمال عند أعلى شارع النيل والأزقة المتفرعة منه وقد بدؤوا يملؤون الطريق... أرى أقدامهم من بعيد حافية وفي أحذيتها وهم قادمون يخترقون ضباب الصباح... يتجهون إلى المصنع بعد أن نجح الإضراب، كانوا يقتربون ويقتربون، أرى وجوههم السُّمر القوية والصُّفر الهزيلة، فأعرف بعضهم... أعرف الكثير منهم... أكاد أناديهم بأسمائهم، أكاد أصيح بهم وهم ذاهبون إلى المصنع يديرون الآلات التي هشّمت لحمي واستنزفت دمي وضاعت بين ضجيجها أيام حياتي خليطاً من ساعات الكفاح والعذاب».‏

(٤)‏

ختاماً نشير إلى أن كوكبة عربية من نقاد الأدب والفكر والباحثين الأكاديميين نظروا في هذه المسألة فرأوا أن النزعة الإصلاحية اتجهت بالأدباء إلى إضاءة جوانب الضعف وبيان آثارها السلبية في حياة المجتمع العربي، واكتفت بالاحتجاج عليها في لهجة تحذير وتنبيه حيناً وتقريع وغضب حيناً آخر، إضافة إلى أنها نزعة تصدر عن رؤية مضطربة تشوبها المفاهيم المثالية القديمة وأفكار الثقافة البرجوازية الحديثة لذلك راح الأدباء الإصلاحيون يعالجون مظاهر الشقاء الإنساني مجردة عن محتواها ومنفصلة عن علاقاتها بالتركيب الاجتماعي وكانت حلولهم لها تذهب بعيداً عن الواقع وتجعلهم يستصرخون الحكام وأخلاق الناس للعطف على الفقراء والمعوزين.‏

أما أدباء الواقعية الجديدة ذات البعد الاشتراكي فقد تعثر بعضهم في فهم طبيعة الصراع الاجتماعية وأسرع بعضهم بالبطل الإيجابي في الوصول إلى النصر عبر مصاعب مصغّرة تجاوزها بكفاح يسير فيه الكلام الحار عن النضال أكثر مما فيه من ممارسة وعمل.‏

m.alskaf@msn.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية