|
معاً على الطريق حسب اطلاعي غير المتواضع على مجمل أدبيات الرئيس بشار الأسد فإنني أجزم بأن هامش النقد أوسع بكثير جداً من تصورات الذين ولدوا وولد في داخلهم شرطي يدفعهم إلى التشذيب والقصقصة والبتر واللف والدوران وقول أشياء مبهمة وملتبسة دونما أدنى تكليف رسمي سوى الرعب من ذلك الشرطي الداخلي. إن نظرة سريعة نلقيها على بنية خطاب الرئيس بشار الأسد من خطاب القسم في 17 /7/2000 وحتى الآن تكشف عن حالة غير معهودة أو مألوفة في مجمل بنية الخطاب السياسي الرسمي العربي, وعلى الأخص ذلك النوع من الخطاب الذي يستخدم علناً صفة ( نحن) في الحديث عن الذات, ففي حين يحرص الخطاب العربي الرسمي على استخدام مختلف المؤثرات العاطفية والصوتية والحركية لخلق نوع خاص من ( الكاريزما) فإن خطاب الرئيس بشار الأسد هادئ وبعيد عن مختلف أشكال الكاريزما لانه يهدف إلى مخاطبة العقل والابتعاد عن إثارة المشاعر, لذا نرى خطاب سيادته قريباً جداً من أحاسيس ونبض الشارع العربي, وعلى الأخص حين يرتجل خارج النص المكتوب وهذا عائد لسمات وصفات وسجايا خاصة. وقبل الدخول في أي تفاصيل عن بنية خطاب سيادته وعن دراستها وتحليلها أجدني مضطراً لإعطاء لمحة تاريخية سريعة عن أصول المشروع الذي يحمل اسم ( المعجم الشامل لأدبيات السيد الرئيس بشار الأسد) ومع أنني ألمحت إلى هذا المشروع في عدد من المقالات مطالباً المعنيين وذوي الشأن بالتعاون لإنجازه ومع أن مجلة الأزمنة الغراء أفردت له ملفاً خاصاً بتاريخ 28/1/2007 يتألف من 32 صفحة تحت عنوان ( قصة المعجم التاريخي للغة العربية من ألفها إلى يائها) إلا أن الغموض واللغط مازال قائماً ومستمراً. بدأ عملي في إعداد المعجم التاريخي للغة العربية عن طريق الحاسب عام 1984 حيث قمت بوضع برنامج حاسبي قادر على تقطيع الشعر إلكترونياً وبنيت الموسوعة الالكترونية الشاملة للشعر بغرض إدخاله في المعجم التاريخي للغة العربية كرديف لمفردات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف, التي كنت قد خزنتها في الحاسب, وقد تعاونت في تطوير هذا المشروع مع المجمع الثقافي في أبو ظبي قبل حوالي عشر سنوات وبعد أن ادعى المجمع المشروع لنفسه توقف التعاون وتوقف المشروع. وفي عام 1995 بدأت العمل على المعجم التاريخي السياسي فقمت بإدخال مجموعة من أدبيات المغفور له الرئيس حافظ الأسد وبعد إطلاع السيد الدكتور بشار الأسد على المشروع قدم له دعماً معنوياً ومادياً فجرى تعاون بيني وبين أحد أضخم مراكز الابحاث والمعلوماتية,لكن مفهوم الاقطاع والكانتونية سبب إيذاء كبيراً للمشروع فتوقف التعاون وتوقف بعد بضع سنوات المركز نفسه,فكان أن أقلعت عن الفكرة من جذورها بعد سلسلة من النكسات التي بدأت من سرقة مشروعي الترجمة الآلية في أوروبا. وحدث أن التقيت قبل حوالي السنة بالصديق الدكتور نبيل طعمة وبعد أن اطلع على بعض مشاريعي ألح على ضرورة أن يخرج مشروع أدبيات السيد الرئيس بشار الأسد الذي عملت عليه بشكل ضيق ومحدود, إلى النور مهما كلف الأمر ووضع أمامي ميزانية مفتوحة فانطلقنا في العمل ضمن مجموعة لا تتعدى عشرة أشخاص. كانت المهمة الاولى تتركز حول جمع نصوص تلك الأدبيات فاعتمدنا على وكالة سانا التي كانت قد شرعت لتوها في أتمتة الأرشيف ,وقامت بذلك المهمة العسيرة والشاقة الصديقة سعاد جمعة التي شرعت مشكورة بتزويدنا بالمواد تباعاً لنقوم بأرشفتها حسب الترتيب الزمني وبإدخال نصوصها ومعالجتها. ثم توسع الأمر فزودتنا الأخت سعاد بكتب قامت بإعدادها كل من الادارة السياسية وصحيفة تشرين وكانت الادارة اعتمدت مبدأ السنة بمعنى أن تجمع أدبيات سيادته ابتداء من عام 2001 وقد طبعت حتى الآن ستة كتب أما صحيفة تشرين فقد اعتبرت ان التاريخ يبدأ من خطاب القسم في 17 /7/2000 وقامت بطبع ستة كتب سنوية تحت اسم الانطلاقة يبدأ كل منها بهذا التاريخ أي كل كتاب يشتمل على جزأين من عامين متتاليين. وتجاه هذا الواقع وجدنا أنفسنا أمام مأزق حقيقي يتلخص بنقطتين الاولى نقص لا يستهان به لعدد من النصوص الهامة التي تجمعت لدينا والتي لم ترد في كتب الادارة وكتب تشرين والذي جعلنا نشكك بمختلف أشكال الأرشيف المتبعة ,أما النقطة الثانية فهي تحديد نقطة البداية في أدبيات سيادته. ففي حين يبدأ أرشيف تشرين من 17 /7/2000 ويبدأ أرشيف الادارة من عام 2001 متجاوزاً خطاب القسم نفسه فإن أرشيفنا يبدأ من عام ,1994 ولابد من التوقف ملياً عند هذه النقطة وطرح السؤال الإشكالي التالي: من أين نبدأ?. في رأيي الشخصي أنه بصرف النظر عن عمق الرؤية الاستراتيجية التي يتمتع بها السيد الرئيس بشار الأسد فإنه لم يكن قبل تسلمه لسدة الرئاسة طارئاً على المشهد السياسي الوطني والقومي والعالمي. وسبق أن عرضت في بعض مقالاتي في صحيفة الثورة نوعاً من الأدبيات الشخصية الخاصة بسيادته غير المنشورة والتي ترقى إلى أكثر من أربع سنوات من تسلمه لسدة الرئاسة وأهمها مفهوم حريق الغابات. ومع مرور السنوات وتوالي الأحداث صارت تتعمق لدي مرتسمات المفهوم الاستراتيجي لحريق الغابات والذي يتلخص بأنه إذا كانت ثمة غابة مشتركة بين بلدين وشبت النار في اشجار أحد البلدين فإنه لا يمكن للبلد الآخر أن ينتظر وصول النار إلى أشجاره حسب مفهوم عدم تجاوز الحدود السياسية بل إن من حقه ومن واجبه أن يهب إلى إخماد النار في اشجار البلد الأخر, وهذا هو جوهر علاقتنا بلبنان الشقيق وهذا هو جوهر جدلية الحرب والسلام نفسها بمعنى أن من لم يشارك في الحرب لايحق له أن يجأر بعملية السلام. ففي حين تتدخل مختلف الدول القصية والنائية بمخابراتها وسفرائها بكل صغيرة وكبيرة في شؤون لبنان بكل صفاقة ووقاحة يمنع على سورية الدفاع عن نفسها حتى من ضمن مفهوم حريق الغابات, وعلى الأخص بعد أن تحول لبنان إلى مستقر وممر للتآمر على سورية, وبعد الاعلان الصفيق الرقيع لأكبر معتوه مر على سدة الرئاسة الاميركية بتعهده بجعل إيران وسورية شبيهتين بأفغانستان والعراق, وعليه أعتبر مفهوم حريق الغابات من صلب أدبيات الرئيس بشار الأسد, حتى وإن لم يجر توثيقه على شكل نص منشور. دعونا نأخذ جزءاً يسيراً من أدبيات سيادته قبل تسنمه سدة الرئاسة للتأكيد على مدى العمق الاستراتيجي في فهم الاشياء, ففي لقاء صحفي لسيادته مع صحيفة الوسط اللبنانية بتاريخ 23 /8/1999 قال سيادته: ... لا أعتقد أن العولمة حصلت بالمعنى الشامل,هناك عولمة في الاتصالات , العولمة تتضمن شيئاً من توحيد النموذج بغض النظر عن طبيعة هذا النموذج فهذا لم يحدث حتى الآن, نستطيع القول إن العالم يسير نحو العولمة ولا نعرف إن كانت ستتحقق أم لا? ربما العولمة الواضحة هي عولمة عسكرية, دولة قوية تقوم بضرب دولة أقل قوة متى شاءت وفي اي مكان في العالم وينتج منها بدرجة أقل عولمة سياسية من نوع إملاء القرارات السياسية على دول العالم... تصوروا ان هذا الكلام قيل قبل استلام سيادته والرئيس جورج بوش للحكم وقبل أحداث الحادي عشر من أيلول بحوالي السنة او بسنتين. وفي لقاء اجرته مع سيادته صحيفة الكفاح العربي اللبنانية بتاريخ 4/2/1999 قال: أنا ضد استخدام مصطلح الملف اللبناني, إن العلاقة بين سورية ولبنان هي علاقة شعب واحد في بلدين يجمعه التاريخ والجغرافيا والنضالات المشتركة, فهل من المنطقي ان نختصر كل هذه العلاقات بملف وهل يمكن ان نحصرها بشخص, بكل تأكيد لا.. واضح ان هذا الكلام العميق المبكر لم يجد آذانا صاغية لان المؤامرة كانت محبوكة سلفاً, فرغم تعدد عملية اعادة انتشار القوات السورية في لبنان ورغم حقيقة ان سيادته كان أول رئيس سوري يزور بيروت لكن صبيان السياسة وغلمانها في لبنان كانوا يصرون على تحميل سيادته مختلف الاخطاء التي ارتكبت قبل تسلمه لسدة الرئاسة. وعليه لا بد من استكمال كافة النصوص التي سبقت فترة تسنمه لسدة الرئاسة للتعرف على المسار الفكري الاستراتيجي لسيادته عبر كل تلك المآسي التي جرت والمؤامرات التي جرى حبكها بتقنيات تفوق التصور. ان الحديث عن المعجم الشامل لادبيات السيد الرئيس بشار الأسد يبقى غامضا وملتبسا ما لم يتح للجميع الاطلاع على تفاصيله وجزئياته. ولا بد من اعتبار كل ما قاله الرئيس بشار الأسد نصاً واحداً متسقاً وغير قابل للتجزيء الا في حدود التبويب والترتيب والفرز والتحليل. ولقد تعمدت أن يحتوي المعجم الشامل لأدبيات السيد الرئيس بشار الأسد على كل كلمة قالها للتأكيد على أنه لا يهاب أو يخجل من أي كلمة قالها, وللتأكيد أيضاً على أنه ليس ثمة أي نوع من أنواع الانتقائية أو المونتاج بغرض المحاباة, فثمة بون شاسع بين الجدلية وبين التناقض وقلب ظهر المجن. فالذي لديه موقف وطني ورؤية استراتيجية عميقة لا يخجل من أي شيء قاله لأن خطابه السياسي يتطور ضمن إطار جدلي, فليس من المعقول الحديث عن الاشتراكية باللغة وبالعقلية نفسها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبعد التغيرات الجذرية التي شهدتها الصين, وليس من المعقول الحديث عن القومية العربية باللغة وبالعقلية نفسها بعد كل هذا التفكك والتشرذم الذي يشهده العالم العربي, وعليه تبقى سورية متمسكة بالمسألة القومية والمسألة الاشتراكية ضمن الإطار الجدلي, وثمة بون شاسع بين هذا الخطاب الجدلي وبين الخطاب المتناقض للذين ينتقلون من موقع إلى آخر وينقلون البندقية من كتف إلى آخر. في ما يخص جدلية الحرب والسلام عند سيادته نجد تلوينات يصعب التعرض لها ضمن مثل هذا المقام الضيق, ففي مجال الإرهاب يفرق سيادته بين مكافحة الإرهاب وبين الحرب ضده, فهو يرى أن الحرب تكون ضد جيش أو دولة, أما بالنسبة لمجموعات مبعثرة في العالم فلا بد من استخدام نظام المكافحة بمعنى وضع خطط تنموية وتنويرية للقضاء على جذور الإرهاب. والسؤال الذي يطرح نفسه من ضمن هذا المفهوم هو: هل نكافح الفساد والمحسوبية والهدر أم نعلن الحرب عليها?. إن من أهم ميزات ومقومات المعجم الشامل لأدبيات السيد الرئيس بشار الأسد هو كشف مجموعة من الاستقراءات المستقبلية, والتي تتحول بشكل آلي إلى وثائق, ومالفتني شخصياً في ملف الحرب والسلام في أدبيات سيادته هو أنه أورد عدداً كبيراً من التسميات الثانوية ومن ضمنها الحرب الأهلية والتي ركز فيها على الحرب الأهلية في العراق وفي لبنان وفي دول أخرى لكن اللافت هو حديثه عن الحرب الأهلية الفلسطينية حيث قال سيادته في لقاء مع صحيفة الحياة بتاريخ 26 /6/2006 مايلي: (.. فقد طرحته عندما بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون يتحدث عن غزة أولاً,قلت لهم هذا مشروع حرب أهلية فلسطينية,بمعزل عن الظروف التي كانت ستأتي...). وفي اعتقادي الشخصي أن هذا المقطع هو من أبرز الاستقراءات المستقبلية التي تحولت إلى وثيقة. لكن ربما من أخطر الاستشهادات هو ما ذكره سيادته في لقاء مع صحيفة التايمز اللندنية بتاريخ 13 /12/2002 حيث قال: (... نحن على سبيل المثال اصطدمنا مع القاعدة في لبنان بالتعاون مع الجيش اللبناني, في ذلك الوقت لم يكن أحد في الغرب يتحدث عن القاعدة بهذا الشكل...). وأعتقد أن هذا الاقتباس كافٍ لإثبات معنى الموسوعة الشاملة لأدبيات السيد الرئيس بشار الأسد, وكل ما سأفعله في القريب العاجل هو أن أنشر بالاتفاق مع رئاسة تحرير صحيفة الثورة الغراء المسرد العام لأدبيات سيادته لكي يزودنا الجميع بما لديهم من نصوص لنتخلص من مفهوم الإقطاعات والكانتونات و ( حارة كل من إيدو إلو), فلم يعد مقبولاً أو معقولاً أن نؤجل طباعة موسوعة وطنية تتألف من أكثر من عشرة آلاف صفحة لمزاجيات الآخرين وقصورهم. ويبقى قلبي على وطني سورية هذا البلد الصامد المناضل المكافح المنافح الممانع المظلوم المستهدف الصابر المحتسب. burhan boukhari@mail.com |
|