|
معاً على الطريق فتح جريدته وراح يحلّ الكلمات المتقاطعة. وحين مرّت الغجرية، هزّت الودع وقالت له : لا تقلق ..ستأتي. انتبه إلى أنه نسي الوردة البيضاء في كأس الماء قرب المرآة. الورد الأبيض يشبهها. قال للغجرية التي ضحكت وابتعدت باتجاه صبية قادمة. الفتاة مستعجلة. والغجرية تريد أن توقفها.. اهتزت الأرض فجأة.. مالَت الأشجار الواقفة. دوي بعيد يصمّ الآذان.. تبعثر الودع وضاع في الغبار. نهضت الفتاة التي ركضت صوب الشاب والمقعد والجريدة. صرخت بأعلى صوتها. لأنها اكتشفت أن الشاب الذي كانت تركض لملاقاته.. غادر ونسي رأسه على المقعد. ****** تلك التي كانت تلوح لابنتها الصغيرة وهي تقف على النافذة.. كانت ترتدي بلوزة حمراء وكانت الطفلة تلبس (مريولها ) الأزرق. مرت حافلة الحضانة..أطلقت أغانيها الصباحية.. صعدت الطفلة. بينما المرأة صاحبة البلوزة الحمراء مدت يدها أكثر.. كأنها تقدم قلبها. مضت الحافلة.. ابتعدت في الشارع.. ولكن يد المرأة طارت خلف الطفلة. اليد التي تلبس البلوزة الحمراء تسقط على الرصيف.. المرأة نسيت أن تأخذ يدها قبل أن تمضي وراء الغيم لتلحق بابنتها. ****** حمزة ... لم ينسَ أن يأخذ بندقيته..ولم ينسَ أن يحمل هويته في قلبه. ما اسمك ؟ ما لون دمك ؟ ما لون وطنك ؟ تذكر كل الأجوبة ورد على كل الأسئلة. وأعطاهم اسم أبيه واسم أمه واسم القرية.. لم ترتعش الأسماء في يده ولا في قلبه.. بسمل. ولاقى وجه الله بهدوء لم يأخذ معه حتى دمه. دمه لون العلم السوري. دمه لون الصبر. ****** كان البرد شديداً ذات شتاء.. مرّ الريح بنافذة البيت الشرقية.. فبكت الأم ابنها الرابض قرب العاصي. نزل المطر.. فبكت من جديد ابنها القابع تحت الغيم قرب العاصي فتحت خزانته.. وراحت تطوي ثيابه الشتوية.. سترسلها مع أحد إخوته.. وربما تذهب هي وتوصل الثياب له. ربما تستطيع أن تضمه وتشمه. لكن الوالد رفض أن تذهب قائلاً: أنا أذهب مع سرفيس حلب، وأجلب ابنك معي.. صدقيني.. الطريق خطر تنهدت الأم متذمرة.. راحت تحشو كيس الثياب بالصابون والجوارب والقمصان الداخلية والفطائر. وصل الأب إلى العاصي.نفّذ وعده وجلب ابنه معه.. لم يكلمه طيلة الطريق ولم يسمح له أن يغسل التراب عن ثيابه كي تبقى رائحته رائحة تراب الوطن. دخل الأب أولاً.. فوجئت الأم بأن صرّة الثياب عادت إليها. كادت أن ترسل صيحة مفجوعة، لكن الأب قال: هو معي. والله ابنك معي .. أجل كان ابنها مع أبيه. دخل شامخاً.. ملفوفاً بالعلم. لكن.. نسيت الأم أن تشمه قبل أن يودعها ويلفونه بغار الجبال العالية. ****** حين طالت العتمة ومدت الأصوات القاتلة رأسها إلى البيوت النائمة في قرية المبعوجة. غطت الأم أولادها النائمين وراحت تنتظر زوجها. زأر الرصاص.. وزأرت الضباع وقطعان الوحوش التي دخلت من الباب الخلفي.. الأطفال نيّام.. الساطور على رقبة الطفل الأكبر....ساقوا الأم خطوات ثم ذبحوها على العتبة ومضوا. كانت العتمة شديدة والقرية غافية. استيقظ الطفل الرضيع.. صرخ (ماه. ماه).بكى ثم سقط على الأرض، راح يحبو، وينادي أمه..اقترب منها. تسلق جسدها الملقى على الأرض.. باحثاً عن ثديها.. يريد أن يأكل ..بكى كثيراً قبل أن يغفو قربها.. لقد نسيت أن ترضعه قبل أن تغادر. ****** أتظنون أن الحروف تبالغ؟ أغلقوا كتاب سورية الآن.. وأغلقوا كتاب فلسطين.. وافتحوا كتاب اليمن الحزين.. لا تنسوا أن تجففوا الحروف من دمها.. لا تنسوا أن تلقوا السلام على بلقيس وهدهدها. |
|