|
كتب يغرف محمد العشري من الخيال .. كما يغرف من الواقع . نفس المقدار .. و ذات الكمية يجمعهما إلى بعضهما .. يضيف المكوّن الأول إلى المكوّن الثاني .. يصهرهما .. يوحدهما .. ليخرج بنسيج عمله الروائي (هالة النور ) .. المطعّم بنبض حياتي معاش .. المشغول بنفس تخييلي تسبح فيه تهويمات ربما كانت ذاتية محضة تخص الروائي وحده .. الجيولوجي العامل في مجال البحث و التنقيب عن البترول في الصحراء .. و هي نقطة التقاطع الأبرز مع بطل شطره الخيالي ( حسام ) الجيولوجي أيضاً .. ما يمنح بُعداً واقعياً ملموساً لما تسرده هذه الشخصية حتى في شطحات تأملاتها . اللافت .. أن القارئ كلما دخل اللعبة السردية المتّبعة في الشطر الخيالي ، المعتمدة تيار الوعي .. كلما غاص في لاوعي الروائي الذي يُعيده هكذا فجأةً إلى فجاجة الواقع مع بطله الآخر .. الذي يعمل مندوب مبيعات في أحد المكاتب الخاصة . و كأنما جاءت تلك الأسفار الفلكية التأملية التي سبّبها مضيه في عمق الصحراء .. مخدّراً .. منوّماً يريح ، و لو مؤقتاً ، من أدران الواقع و قتامته اللاموصوفة أخلاقياً . يوظّف العشري الصحراء أداةً للتطهير .. للتأمّل .. لفتح آفاق الحياة على مصراعيها .. ابتعاداً عن تفاصيل الحياة اليومية المغروسة في صلب المطامع و المصالح الآدمية الدنيوية المؤقتة . فالصحراء لديه .. بوابة للحلم و للعودة إلى أصالة مفقودة و مفتقدة في دنيا الواقع .. يقول : ( أحاول أن أتيقن ما كنت فيه ، و ما أنا فيه ، فأيهما واقع و أيهما خيال ، تاهت الحدود الفاصلة تحت ملمس خشن ، تركه الرمل في كفي .. ) . هكذا يمضي العشري في لعبته القائمة على أساس ( الارتداد ) بين الواقع و الخيال .. يمضي في أحدهما .. فما يلبث أن يعود آيباً إلى الآخر .. هل أراد أن يُشعر قارئه بشيء من التوازن .. فلا كامل الاستغراق في دنيا الصحراء و لا تمام الانغلاق في تفاصيل بشعة واقعية . في تأملاته .. يفيض دقةً وصفيةً لعوالم الصحراء .. كما في قوله واصفاً حركة الرمال مع الريح .. ( يحتك تكوير الرمل بسيف الريح المنعش الهابط من أعلى ، فاتحاً ذراعيه لاستقبال الدفء . تدور الحبيبات الأصغر ، التي تتراكم فوق بعضها ، متلونة في أشكال هلالية ، حين تنكمش على بعضها و تتعانق بقوة ، تاركة الهواء يفلت من طرفيها ، و أخرى ثعبانية ناعمة يترك احتكاك الهواء بها فحيحاً متواصلاً ، عندما تلتذ بوخز البرودة ، فتتركه على حريته يقلبها كيفما شاء ، مستسلمة لكفيه العملاقين و جسده الطري ، تسيطر عليها النشوة فتعلو و تمتد تلك الكثبان الرملية لعشرات الكيلومترات ، كاسحةً و مغطية كل ما يقابلها في طريقها .. ) . لا يغوص الروائي في عوالم شخصياته الأساسية .. إلى القاع .. إنما يركّز فقط على ثيمة واحدة يجعلها كخلفية لحياة كل من ( حسام ، و الآخر المندوب ) .. فبينما تبرز ثيمة الخوض في رحلة تأملية فلكية و علمية يقوم بها حسام لاواعياً .. تبرز لدى الشخصية الأخرى ثيمة مشكلات العمل في الحصول عليه ثم في التأقلم مع عقليات تسود فيه لا تفكًر إلا في المصلحة و المنفعة . و سواء في هذه أو تلك .. نلحظ أسئلةً يسوقها العشري مباشرةً على لسان بطليه ترسّخ حالة ( الحيرة ) الطاغية على كلا الشخصيتين . من تلك التساؤلات في الشطر الواقعي ما يُذكر على لسان المندوب ( أعود تجرجرني التساؤلات عن الصواب و الخطأ ) لدى صدمته بالسائد في الشركات من قبول لرشاوى و أعطيات تسهل مرور الصفقات .. و منها إلى أسئلة أكثر وجودية كما في قول ( حسام ) .. ( لماذا خُلق العالم على هذا النحو ؟ هل هذا هو أفضل شكل متاح ؟ لماذا تقيدنا أجسادنا على هذا النحو ؟ هل هي وحدها التي تمنحنا اللذة و طعم الحياة ؟ ثم ما الحياة أصلاً؟) . تتشابك أسئلة الواقعي مع الخيالي .. و في هذا التشابك جوهر التأكيد أن طينة الحياة ما كانت إلا منهما هما الاثنان .. و في متن هذا ( التطعيم السردي ) تبرز لدى العشري لغة شاعرية تمتلئ تشابيه و استعارات بلاغية تثقل في أحيان كثيرة أكثر مما تضيف بُعداً جمالياً . في شطحات التأمل الصحراوية توظّيف علمي يطفو على السطح .. في إيماءات يبثها الروائي لدى ذكره لمخلوقات من الفضاء الخارجي تأتي لتستثمر طاقات الصحراء . هي محض إشارة منه إلى ضرورة الاستفادة مما تختزنه هذه الصحراء . في ( هالة النور ) لا ينشغل العشري برسم شخصيات كثيرة .. و لا بتتبّع خط سير الأحداث .. فلا تشعب في هذا الاتجاه .. و مع ذلك .. و في شطري عمله تخييلي و واقعي .. يبسط المجال واسعاً لأفق السؤال لديه . الكتاب : هالة النور . - المؤلف : محمد العشري . - الناشر : الدار العربية للعلوم ناشرون . - الطبعة الثانية 2012 م . |
|