تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


غادة دهني في تطلعاتها التشكيلية الحديثة .. حوارية التعبير بين الشاعرية والكثافة اللونية

ثقافة
الاثنين 28-12-2015
أديب مخزوم

لوحات الفنانة التشكيلية غادة دهني، زاخرة بمشاهدها التعبيرية، الآتية من معطيات شاعرية العيش والإقامة والذاكرة الطفولية، فالطبيعة الخلوية المكتنزة بالورود والزهور، ومشاهد عباد الشمس والعناصرالانسانية والطيور وغيرها،

تبدو في تحولاتها وتنقلاتها، بين التجسيد والتبسيط، والوهج والتعتيم، منفتحة على الاجواء اللونية المحلية ببريقها الضوئي. وهي ترسم الوجوه في بعض لوحاتها بمنطق عقلاني، باحثة عن جماليات اللمسة المدروسة، وتدرجات الظل والنور ونعومة الملمس، في معالجة الوجوه والأطراف، ومن ثم تنتقل في اللوحة الواحدة، لإضفاء العفوية وخشونة الملمس وكثافة المادة اللونية.‏‏

‏‏

تنويع تقني‏‏

وهذا التنوع الذي بحثت عنه، في مجموعة لوحاتها السابقة والجديدة، من خلال الألوان بدرجاتها وحساسياتها المختلفة، بل ومن خلال الانتقال، من المعالجة اللونية الهادئة والشاعرية، في أجزاء من اللوحة، إلى المعالجة العفوية والغنائية في أجزاء أخرى، معتمدة في الحالة الأخيرة، على تكثيف طبقة اللون، داخل المدى التصويري الذي تراه العين، ضمن إطار اللوحة.‏‏

وبتعاملها هذا في إضفاء اللمسة اللونية الغنائية، تقترب، في بعض لوحاتها من ضفاف التجريدية المنطلقة من تأملات مشاهد الطبيعة بحقولها وورودها، و هنا قد تتحول الزهور والورود إلى مجرد مساحات ولطخات لونية، تنطلق من هاجس كسر تصويرية الشكل الواقعي وتعزيز الانفعال الوجداني في المدى التصويري التعبيري- التجريدي.‏‏

وهذا يعني أن اللوحات التي قدمتها غادة دهني في تجربتها الفنية الطويلة، تبدو آتية من مشاهدة العناصر الانسانية والطبيعة والزهور والطيور وغيرها، وهي في معالجتها لثوب المرأة في لوحات البورتريه، تجعل الورود داخلة في نسيج اللباس، بحيث تبدو وكأنها جزء منه.‏‏

وهذا التنوع التقني والأسلوبي في معالجة الأشكل وفي وضع المادة اللونية، يساهم في إغناء التجربة، ويؤدي إلى نوع من تحقيق العنصر الذاتي، في خطوات إيجاد الركائز والمنطلقات والرؤى والهواجس الفنية. وهي في ذلك، تطرح اللوحة الحديثة، المعبرة عن تداعيات الإقامة، والحاملة وهج الضوء وعناصر المكان، فالحنين إلى اللون المحلي، ولاسيما في معالجة فسحات الطبيعة والزهور، هو جزء أساسي في لوحاتها، السابقة والجديدة نراه يطل، وبقوة في أعمالها عبر استعادة الأشكال المترسخة في الذاكرة والوجدان.‏‏

بين الواقعية والتعبيرية‏‏

هكذا يظهر اهتمامها المتزايد بتجسيد حالات من المنظور الحديث، الحامل مدى ومناخ الفضاء الواقعي-التعبيري، وتساعدها خبرتها التقنية، في معالجة طبقات اللون، والاستعانة بسكين الرسم الحادة، على مضاعفة التأثير المشهدي، المقتطف من حضور اشارات الأشكال بعد إلغاء الثرثرة الواقعية التفصيلية، وفي هذا الاطار تتحول الوجوه في بعض لوحاتها إلى مساحات لونية، لاوجود فيها للملامح وتعابير العيون، وبذلك تخرج الوجه من الإطار الخاص إلى العام، ومن العالم المادي إلى العالم الروحاني (وهذا يبرز بشكل واضح في لوحات المولوية والتجمعات النسائية).‏‏

ولقد كانت غادة دهني تبحث ومنذ بدايات انطلاقتها الفنية، عن حل لتجليات الرجوع إلى ينابيع الواقعية، دون أن تخون مشاعرها واحاسيسها الذاتية، فقد كانت ولا تزال تختبر الحالات وتستعيد المشاهد، لتصوغ باللمسة اللونية والواعية والهادئة ومن ثم المنفعلة، عناصر الأشكال، من خلال البحث عن جوهر العلاقة القائمة، بين ايقاعات النور المحلي وشاعرية اللمسة المدروسة والمتوازنة.‏‏

فالأداء التشكيلي الذي جسدته وتجسده في لوحاتها التي تقدمها في معارضها الفردية والجماعية يبعدها مسافات عن الاشارات الواقعية التسجيلية، ويدخلها في اطار الحالة التعبيرية، المعبرة عن عمق الانفعالات الداخلية، التي تمنح خطوطها وألوانها المزيد من التتابع الايقاعي، الناتج عن استخدام سكين الرسم الحادة، في خطوات وضع العجائن اللونية وفي سياق رسم مواضيع الزهور وتسجيل لحظات الأنوثة بحالاتها المختلفة والمتنوعة.‏‏

معارض فردية ومشتركة‏‏

واللوحة التي قدمتها غادة دهني في سلسلة معارضها الفردية في دمشق (في صالة نصير شورى 2001، وفي صالة آرت هاوس 2006، في بيت السباعي 2007) ومعرضها (في باريس 2005). ومعارضها المشتركة (معرضها الثنائي في صالة السيد 2007) ومشاركاتها الجماعية (في سورية و لبنان و باريس) تعيدنا إلى تأثرها بمرحلة ما بعد ظهور المدرسة الانطباعية في الفن الحديث، وذلك لأن لوحاتها كانت ولا تزال تحمل شيئاً من العنف التعبيري، الكامن في كثافة اللون وخشونة التقنية، وصولاً إلى إضفاء المزيد من الإيقاعات اللونية المنثورة نثراً، في المدى التصويري التعبيري، وهذه الطريقة التي تعتمدها في نثر اللون فوق العجائن اللونية المتتابعة، تمنح السطح التصويري شاعرية بصرية مقروءة في الإيقاعات اللونية المتنوعة الدرجات والحساسيات، والتي تزيد من ارتباط أعمالها بالصياغة التشكيلية الحديثة، الموجودة في ثقافة فنون القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة، كل ذلك يساهم في إبعاد اللوحة عن النعومة، التي نجدها في الأعمال التقليدية ولاسيما الكلاسيكية والواقعية التسجيلية، رغم أنها تميل في بعض جوانب لوحاتها ولاسيما في تجسيد الوجوه والأطراف، لإضفاء المزيد من الرقابة العقلانية المركزة في تجسيد التفاصيل، مبتعدة عن الكثافة اللونية التي تعتمدها في جوانب أخرى من لوحاتها.‏‏

هكذا تتنقل أحياناً في اللوحة الواحدة، بين اللمسة الكثيفة للون وبين اللمسة الهادئة والرقيقة، وهي في ذلك تستعرض اختباراتها التقنية، التي توصلت إليها في بحثها اليومي، وأعطت لوحاتها هذا التنويع في تجسيد الموضوعات الحميمية، ولاسيما الطبيعة والوجوه والزهور، بفرح داخلي أحياناً، وبحزن مركز أحياناً أخرى، حيث ترسم وجوه الفتيات الحالمات وحركات أيديهن الحاضنة أحياناً باقات الزهور والمتلهفة للحنان.‏‏

كما أن تأملات بعض لوحاتها التي تجسد فيها المرأة، تعيدنا إلى التماس بعض تأثيرات الفنون القديمة، وهذه الحالة نجدها في الاستطالات الطولانية، التي تعالج بها الوجوه أحياناً، والتي تمنح اللوحة المزيد من التتابع الإيقاعي الروحاني، وهذا يعطيها قدرة على الاستفادة أو التأويل من معطيات الفنون القديمة، ويحقق الاندفاع التشكيلي الذي يجمع ما بين معطيات التلقائية والعفوية، في صياغة اللوحة الحديثة من منطلقات الفنون الأوروبية والشرقية في آن واحد.‏‏

facebook.com/adib.makhzoum‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية