|
شؤون سياسية وكما كان متوقعاً، حدد رئيس الوزراء الإسرائيلي رؤيته الخاصة للدولة الفلسطينية، التي تتلخص في اللاءات الأربع: لا لدولة فلسطينية ذات سيادة، ولا عودة للفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم، ولا انسحاب من القدس، ولا لوقف النمو الاستيطاني. وفي مقابل موافقة نتنياهو على هذه الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح، والتي ستكون بمنزلة «كيان فلسطيني مستقل ذاتياً واقتصادياً» اشترط على الفلسطينيين أن يعترفوا بإسرائيل كدولة يهودية وقال نتنياهو: «إن دولة إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، غير أن الجانب الفلسطيني يرفض الاعتراف بذلك». هذا الموقف ليس جديداً على فكر اليمين الإسرائيلي المتطرف، بل هو يعكس بدقة الموقف الحقيقي الذي يتسم به الآن المجتمع الصهيوني المنعطف أكثر فأكثر نحو التطرف والتشدد، وحكومة نتنياهو الحالية هي الحكومة الأكثر تعبيراً عن مواقف ومزاج المجتمع الصهيوني منذ قيام إسرائيل. فما يميز هذا المجتمع الصهيوني العنصري، هو أنه أوصل هذه القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة إلى السلطة، والمتمثلة في حكومة نتنياهو التي تجمع في ثناياها تلاقي اليمين الفاشي الصهيوني بشقيه العلماني والديني، حيث يرسم هذا اليمين الصهيوني المتشدد ملامح إسرائيل الراهنة والمستقبلية. ونعود إلى الشرط الأساس لنتنياهو وهو الذي يطلبه من الرئيس الأميركي أوباما بدفع السلطة الفلسطينية إلى الاعتراف بإسرائيل كدولة أساسية قبل أي اتفاقية يتناولها الطرفان في المستقبل، فنقول: إن اعتراف الطرف الفلسطيني المفاوض بإسرائيل «دولة يهودية» يعني الاعتراف بالأطروحات الصهيونية المدافعة عن حقها المزعوم باستعادة أرض فلسطين التاريخية التي أقامت عليها الحركة الصهيونية العالمية بالتعاون مع القوى الاستعمارية الأوروبية والأميركية مشروعها الاستيطاني، المتمثل في قيام إسرائيل سنة 1948، ولاسيما أن جوهر الإيديولوجية الصهيونية الدينية تعتبر أن أرض فلسطين التاريخية هي حق وامتياز يمتلكه اليهودفي مسقط رأسهم ليس إلا. إسرائيل لاتريد حلاً لقضية القدس، ولاتريد إلا سلامها الخاص الذي يقوم على اعتراف العرب بها كدولة يهودية خالصة، أي أنها تسعى إلى الحصول على اعتراف بأرض الميعاد، وهي فكرة تستند إلى دعوى توراتية ونهاية رمزية للاضطهاد الذي عانى منه اليهود على مر العصور، والذي بلغ ذروته مع الاضطهاد النازي، وفق وجهة نظرهم، ومن وجهة النظر العربية عامة، والفلسطينية خاصة، يمثل هذا الاعتراف استسلاماً شاملاً لمطالب الحركة الصهيونية العالمية وتجسيدها المادي، إسرائيل، ونفياً مطلقاً لحق الشعب الفلسطيني أن يكون سيداً على أرضه التاريخية المعترف بها من قبل الشرائع والأديان السماوية، إضافة إلى القانون الدولي الحديث. كما أن خطاب نتنياهو، يريد في أساسه الجوهري اعترافاً صريحاً من الفلسطينيين لم يحصل عليه منذ 61 عاماً، أي الاعتراف بإسرائيل «دولة يهودية» لجهة دفع الشعب الفلسطيني- الذي تعيش في المرحلة الراهنة فصائله المناضلة انقساماً حاداً بسبب الموقف من مسار التسوية الذي لم يقد إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة- نحو التنكر بشكل غير مسبوق لحقه التاريخي في أرضه السليبة، ولهويته العربية- الإسلامية وانتمائه، وكذلك لضرب مسيرة تاريخه الكفاحي المستمرة منذ مايزيد على قرن في سبيل تحرير أرضه عبر المقاومة المسلحة التي تخبو أحياناً لكنها سرعان ماتنطلق من جديد بعد فترة من الزمن، ولاتزال هذه المقاومة مستمرة رغم مسلسل الانحدار العربي نحو قاع البئر. وعلى الرغم من أن منظمة التحرير الفلسطينية وقعت اتفاقيات أوسلو عام 1993، واعترفت بوجود إسرائيل، وخاضت مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أكثر من 15 سنة من الجولات التفاوضية العقيمة، ورغم أن أقوى حركات المقاومة الفلسطينية «حماس» لمحت إلى استعدادها للقبول بالتعايش السلمي مع إسرائيل، إذا ما اعترفت هذه الأخيرة بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة ضمن الحدود عام 1967، فإنه لايوجد فلسطيني واحد من السلطة أو من فصائل المقاومة الأخرى، علماني أو إسلامي، يقبل الاعتراف بإسرائيل «دولة يهودية». ولأن مثل هذا الاعتراف يعني التسليم بالكامل بانتصار المشروع الصهيوني في أرض فلسطين، ومايترتب على هذا الانتصار الصهيوني من الاعتراف بوجود «قومية يهودية»، وبحق مايسمى «الشعب اليهودي» في إقامة دولة قومية، الأمر الذي يجعل الفلسطينيين يمنحون الشرعية التاريخية والسياسية لإسرائيل لتهويد أرضهم التاريخية التي استولت عليها إسرائيل بالقوة وعبر التطهير العرقي عام 1948، وبالتالي التخلي عن العودة إلى أراضيهم واسترداد ممتلكاتهم التي فقدوها كما ينص ذلك صراحة القرار 194، الذي يعتبر جوهر القضية الفلسطينية. ومن شأن هذا الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، سيقود الحكومة الإسرائيلية عاجلاً أم آجلاً إلى قيامها بترانسفير كبير لسكان الـ 48، أي ترحيل نحو 1.5 مليون فلسطيني لايزالون يعيشون داخل الأراضي التي احتلت عام 1948، ولطالما اعتبرت إسرائيل أن هؤلاء يمكن أن يشكلوا خطراً ديمغرافياً على الدولة الصهيونية في يوم من الأيام لذلك وجب ترحيلهم، ولا سيما مع ازدياد سيطرة الأحزاب اليمينية الفاشية على مقاليد السلطة في إسرائيل، وبالتالي سيقود إلى التأسيس للخيار الأردني البديل بشكل واقعي. إن الرؤية الصهيونية للتاريخ تنبع من العودة إلى جذور الديانة اليهودية، والتراث اليهودي، اللذين يفيضان بالتنبؤات والوعود التي تبعث الأمل في صدور اليهود، وتبشرهم بالعودة، وقد أرست الحركة الصهيونية العالمية الكيان الصهيوني على أرض فلسطين إيماناً منها بتنبؤات الديانة اليهودية والتراث اليهودي القديم. وهكذا، أصبح الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين تجسيداً للرؤى التوراتية والنبوءات الدينية، التي حضنها اليهود طوال آلاف السنين من التشتت، وأطلق الفكر الصهيوني على أتباع الديانة اليهودية اسم «الشعب اليهودي» الذي وعده إلهه بأرض فلسطين، واتخذ من فكرة العودة إلى «أرض الميعاد»، وسيلة لإثارة حماسة اليهود الديني والعاطفي في شتى أنحاء المعمورة بهدف تنظيمهم في صفوف الحركة الصهيونية، بوصفها حركة سياسية عملت بجهد هائل وقوة جبارة على اقتطاع اليهود من الأوطان التي كانوا يعيشون فيها، والسير بهم إلى فلسطين. لقد أعادت هذه الاستراتيجية الإسرائيلية الحاسمة في طرح نتنياهو الصراع العربي- الصهيوني إلى مربعه الأول كصراع وجود لاصراع حدود. كاتب تونسي |
|