تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


شـــــرفـــات الأمـــل والـضيـــاء

آراء
الأثنين 29-6-2009م
جلال خير بك

أخرج أوسمته ونشرها بين يديه يرنو إلى أمس كان أقرب إليه من حبل الوريد، ويستذكر صلواته الأولى في محراب الانتماء والاستقامة

واستمرار تقواه هذه حتى فنيت مفاصل عمره وصدئت أوسمته وراياته وهو لا يزال ينتظر غداً لا يأتي فاستحضر بين يديه «غودو» ومعاناة الإنسان الذي يقضي وهو ينتظر!!‏

لم تعد البوارق الأولى تشع في هذه الصحراء القاتلة ولم تعد التعويذة التي حملها دهراً تبرق في هذا الظلام الدامس وتغرق الدنيا بوابل الأمطار، فقد صار الشح حتى في الماء علامة العصر وميداناً للجفاف القادم وأحجية تنشر سحابتها الكثيفة فوق الخضرة التي صبغت الكون دهراً بطوله.‏

وقف طويلاً بين هذه الأوسمة الصدئة يتأملها بحسرة الذي فقد أمسه ويومه ولم تعد بيارقه التي تتمدد قرب تلك الأوسمة توحي بأن انتصاراً قادماً وشمساً عظيمة سوف تبدد كل موجات الظلام المحدق وتحسس فيها عمره الذي مضى دون طعم أو سعادة وروعة الأيام التي اختفت وتبددت كما ينساب الماء من بين الأصابع وأجال الطرف في ذلك الفارق الرهيب بين الخطوات الأولى التي كانت تقطع قاحل المسافات كأنها ذيول وصميم غيمة تملأ الدنيا شبعاً ورياً وتودي بأصعب المسالك بقفزة واحدة!‏

مضى زمان الآمال والجد، وحل زمان الفروق الماحقة بين التوقع والسعي وبين الممكن واللامعقول وانتشر الهلام في كل مكان وصار الهدف الكبير أهدافاً صغيرة يقتلها جشع التملك والكسب والرهان على عالم صغير لم يكن يوماً يتسع لهموم وكفاح التعساء، بل صار مطية لأولئك الباحثين عن السرقات والتجرؤ على أحلام الفقراء، الباحثين عن ضرع البقرة وهو في أفواههم حتى لم يتركوا في هذا الضرع قطرة حليب تروي منه صغارها وما شبعوا لا أشبعهم الله بل إن جشعهم تطاول وتمدد حتى مصوا الحليب كله وأكلوا البقرة وصغارها ولم يتركوا للأرض فرصة أن تنجب لهم المطر والزرع وحبة القمح كي تستر أفواه الفقراء الجائعين وتكسو عريهم الأبدي.‏

لله هذه الأيام التي تخشع لطنين المال وتسجد للذهب الأصفر والأحمر كيفما جاء ويدوس كل واحد جشع: جثة أبيه وأخيه وهو ماض إلى ظلام التحصيل والسرقة والقتل بأي طريقة كانت وبأي صفة كانت وبأي وسيلة مهما انحطت وبالدونية التي تضع العقل والقلب والضمير في «صمدية» تزين قصورهم البهية.‏

لم يعد الوقت أوان المقارنة بين ما كان وبين ما حصل، الوقت سيف يقطعك في هذه المسرحية التراجيدية واللامعقولة!! لأنك لا «تحسن» استخدامه ولا استغلاله وبين النصفين اللذين صرتهما، ينمو عشب كالح يموت بعد لحظات لأنه لا يشرب القيح ولا الصديد بل يطلب ماء صرفاً.‏

الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك لكنه ليس وقت الفقراء ولا وقت النزاهة بل هو وقت الضربة القاضية!.‏

يقضى فيه على كل نفس وكل روح وتسحب دماؤها إلى أنابيب اختبار لمعرفة اللحظة الملائمة للانقضاض والإتيان على «الفريسة».‏

والفريسة وما أدراك ما الفريسة؟ هي الأب والابن والأخ والأرحام فلا حامي لهم إلا إذا تحولوا إلى وحوش في عالم تسوده صفات الغاب وفي أرض لم يعد فيها لآلهة الخصب من عمل أو حضور، فأين أنت من ذلك كله؟ وأين الفؤاد في هذه المعمعة البهيمية التي لا تنتهي؟.‏

كنا على الفقر نحمد الله ونتحمل الظمأ في الصحراء القاتلة! لكننا صرنا نعطش ونحن نعوم على بحار من النفط والثروات.‏

وبين غمضة عين والتفاتتها لم تترك الوحوش منها معلماً واحداً بل ابتلعتها وصرفتها في المصارف «البنوك» الخارجية فاستفاد الغرب والأغراب من ثرواتها الطائلة ونحن نشد حجاراً على البطون!!‏

في أي بقعة أنت... في أي واحة أو أي عين دامعة لا مكان لك في ورود النبع وإطفاء الظمأ، فدورك إن بقي لك دور بعد أن يمص قطيع الضاريات كل بحيرات الماء فلا تترك قطرة لشرب الإنسان أو لري الأعشاب.‏

أنت نقطة جائعة ظمأى! في بحر مملوء ماء أجاجاً لا تقربه العقول ولا الحواس أنت رقم في منظومة لم يستطع العلم ولا الضمير ترجمتها، أنت إشارة مهومة في صحراء لا حدود لها وإنسانك المستغرب المفجوع لا يكاد يصدق أنك موجود ويكفر بكل الأحلام التي زينتها له، خضرة وأملاً ورواءً! لم يبق من كونك الصغير ذرة تراب تتسع لحجرة بناء ولم يبق لك إلا اليباب والريح السموم و«حسن» استثمار الأخلاق والضمير في أسواق النخاسين.‏

أيقوناتك لا تزال مفرودة أمامك ويبارقك تكاد تنتفض من سباتها والصدأ الذي يكلل الذكريات يحفر في الصحراء عساه يجد لون وطعم الأوكسجين والجذور الخضراء.. يحفر ويحفر ويحفر حتى يدركه المشيب لكنه لم ييئس ولم يقنط فما زال في عُبّ التاريخ بعض الماء وما زال في حدائقه اليابسة بعض الخضار، والوقت هو الوقت سيد الفجاءة والانتظار واللاجدوى وأنت تلوب هنا وهناك بحثاً عن الذات في تلك المسرحية المفجعة التي لا تترك للإنسان من خيار سوى الانتظار والأمل بالخضرة والمستقبل وبمقدرة العقل والتصميم على تجاوز هذه المفازة.‏

طوبى للساكنين في عين الصمود والخطر وطوبى للماسكين قلوبهم بيد وعقولهم باليد الأخرى وهم يحرثون صحراء يصرون على أن الماء فيها لا بد أن يروي التراب العطشان! طوبى لهم يسكنون شرفات اليقظة والانتماء وطوبى للشعراء يلونون الكون بالبلاغة والبديع، ويلونون الفجر بكل ألوان السماء وهم يزرعون المجاز والأمل مكان القحط والخواء ويعلنون أن الكون قصيدة عصماء ستبقى إلى الأبد.‏

إنهم يسكنون شرفات اليقظة والأمل والضياء.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية