|
رسم بالكلمات لأن الأفكار هي التي كانت تستبد بها فلا تعرف الراحة فكرة واحدة احتلت الصدارة إن عدم معرفتنا للحياة لا يخولنا مقارنتها بالموت. وجدنا في هذه الحياة ولم ندرك وجودنا، نموت قبل أن ندرك موتنا.. في كل لحظة أتوه فيها وأجول بفكري في اللانهاية لا أعلم يقيناً أأحيا أم أموت؟. ما لبثت الفكرة أن تحولت إلى مشروع خاطرة.. قصة..وقد تكون رواية..وربما لا شيء. جلست إلى مكتبها حاولت ترتيبه لم يكن مجدياً أن تخسر إلهامها من أجل أكوام الورق، والأقلام، والصور، وغيرها المبعثرة على المكتب. تناولت ورقة مفردة وكتبت: لا أدري ما سر تمسكي بالحياة ؟ لاأدري أإن مت أحس بالموت ؟ أم أدرك أن كل الجموع قضت وبقيت، تراني أحس أن يدي لن تكتب الأسماء التي أحب؟ والعناوين التي أحب على مغلفات رسائلي؟ تراني أحس أن لساني لن يلفظ الأشعار التي أرنم؟ تراني أدرك أن عيوني لن تلاقي عيونه خجلة؟ تراني أدرك الموت، تراني أحس أني فقدت أحلامي في ليلة شتائية باردة؟ واستبدلت أغطيتي بذرات تراب باردة حمراء تكسو الجسد الراحل إلى الفناء؟ تراني أحس بالموت؟ وتظل ترن في أذني تراتيل القرآن يرجو لي الرحمة..الاطمئنان..وكذا يرجو الغفران. كانت الكلمات المكتوبة على الورقة أكبر من أن تتركها لحظة الولادة من غير عناية فتعهدتها بعيون متأملة. الطرق على الباب أصبح أشد وأعنف قاطعاً السبات الذي أثقل المكان بهدوء لا ند له قامت مي متثاقلة الخطا، بجسد مهلهل كخرق بالية. أدارت المفتاح وأدارت ظهرها لم يكن مهما أن تعرف من الآتي المهم أنها متأكدة من استحالة وصوله دون أن يمر في الطابق الأرضي. -مساء الخير. -الصوت مألوف ولم تتفوه بكلمة واحدة. -مساء الخير. -صوت جواد.. هل أحلم؟ إنه صوته. -بحثت عنك، جئت إليك. -من كلفك بالبحث والمجيء؟. -الماضي. شعرت بالحياة تغزو مجدداً شرايينها ركضت باتجاه المكتب تناولت دفتراً مخملي الأطراف. -جواد كل الماضي هنا أتريده؟ خذه. تقدم جواد لفها بكلتي يديه عيناها الغارقتان بالدمع تناديه جذبها بالشهوة فقاومه الحب الطاهر القديم جذبها بالماضي فقاومته صورة طفلها المشتهى الذي طالما حلمت به وظلت تحلم به. مجدداً انتفضت أعطته الدفتر الذي وقع من يدها صرخت هذا حبك وهذا ماضيك وشرعت تنتحب ضاربة الأرض والطاولة مفرغة كل شحنات الحب والكراهية والكلمات التي حفرت في الذاكرة بلا عمل أنت بلا عمل. علا صراخها: بحثت عن عمل.. بحثت. ثم سقطت مترافقة مع الأفكار والذكريات والحب والكراهية وكل الأشياء. تزداد الغرفة ظلمة.. وحشة هدوءاً، ولم يقطع السكون إلا ضوء متسلل من فرجة الباب وموسيقا منبعثة من الطابق الأرضي وأصوات المارة الذين يضربون الأرض بنعالهم ثم دقات الساعة ورنينها. -مي السابعة والنصف. نهضت، وكدمية اعتادت الأشياء المحيطة بها أضاءت الغرفة فتحت حقيبة الألوان مسحت وجهها ثم بدأت برسم لوحة لا تشبهها ولا تعرفها وما إن أنهت رسم لوحتها اليومية حتى أدارت ظهرها للمرآة. بحركات سريعة ومرة بعد مرة اختبرت معرفتها لتلك اللوحة وفي كل مرة كان يتأكد لها أنها لا تعرف صاحبة الوجه فأسرت لنفسها. - أصبحت فنانة تجيدين التنكر وأشياء أخرى بل تجيدين كل الأشياء، وبصوت مرتفع: الآن ستكملين التنكر. تقدمت عدة خطوات إلى الخزانة وتناولت ثوباً من غير تقييم أو حتى القليل من التفكير وهمست: لها متشابهة، براقة، بقصات ليست منتظمة بأكمام لا تستر وأبدان لا تمنع البرد. انتعلت حذاءها..فتحت الباب.. انطلقت الدرجات بدأت تتموج تستطيل تارة وتضيق أخرى التصقت مي على الدرجة الأولى صرخت في نفسها. زمن توحيدة ولى.. وتوحيدة ماتت.. لا مكان لها هنا ولا في أي مكان. ثم في محاولة جديدة لتثني نفسها عن الإقدام ارجعي هذا شفير الهاوية ارجعي... نزلت درجة أخرى وهي تتمتم: ارجعي. على درجة أخرى تمتمت: حتى في صراعاتنا الداخلية نحتاج إلى العمليات الفدائية لن أتراجع لن أرجع. ثم سارعت خطاها على الدرجات متربصة بها وقت الاستطالة. دون أدنى تفكير ولجت الغرفة المتقطعة الإضاءة المليئة بالضجيج والأصوات الصاخبة والموسيقا المقززة ما إن أطلت حتى سلطت الإضاءة المبهرة وتنحى الضجيج والموسيقا والأصوات الصاخبة وحدها الأكف تابعت التصفيق لا يلون صوتها إلا صوت الصفير المنبعث من الأفواه المدورة. ثم عادت الغرفة إلى ظلمتها والإضاءة إلى تقطعها وآلات الموسيقا إلى زمجرتها الشيء الوحيد الذي تغير هو جسد مي الذي بدأ يتلوى ويهتز بعد أن خطت خطوات قليلة.. مبدياً مع كل خطوة جانباً من أنوثتها المرهفة مقترباً من الكراسي الموزعة بعشوائية قلقة في القاعة. أشار إليها النخاس المتكئ على أريكة جانبية إلى طاولة محددة، ولمحت في عينيه مكانها بدقة ودون تباطؤ أخذت تتقدم بالتواءاتها وارتعاداتها إلى المكان المطلوب. التقطت عيناها الصورة جزءاً تلو الآخر مع الإضاءة المتقطعة ثم استجمعتها فأدركت الشخصية أمامها هذه الشخصية التي أسرت لها في الظلمة قولي ما تريدين.. اطلبي... تلقائياً زال الضجيج ونوبة اللامبالاة ورجعت إلى ذاكرة مريرة يجعن ويلبسن! أرضني وأرضيك، ما الضير في ابتسامة؟.. ماذا تخسرين؟ - عملك أو حريتي - لكل شيء مقابل.. نحن أشراف.. لا نريد مالاً.. الرشوة.. أنا! أنت ! أنا بأمرك! هل قررت؟ لا تتردي .. أنت .. أنت. جسدها لم يكن يقوى على التوقف ولا التردد. واثباً هنا، متمايلاً هناك.. متظاهراً باللامبالاة إزاء الحريق الداخلي. في مكان ليس بالبعيد كان جواد يقرأ في آخر صفحة: عزائي في الدنيا أنها إلى الزوال لا الحسن باق .. لا الذهب.. لا المال. عزائي فيك أنك إنسان.. ودمعي يؤرقك.. وكذا الأحزان. إذن.. هبني .. هبني ما شئت من الأحزان. لأني الإنسانية وأنت الإنسان - التوقيع: مي- ربما أرقته الكلمات، فعاد إليها راكضاً تارة ومتباطئاً أخرى.. لما وصل أسند ظهره للجدار ملتقطاً أنفاساً كادت تطير في الطريق. عيناه غريبتان، هيئته غريبة، كله ليس هو. عيناه اللتان اعتادتا روية خفرها.. نعومتها ماذا تنتظران؟ في تلك الدقائق الطويلة كانت مي ترزح تحت حكمين أقوى منها... كانت تحس أن دود الموت بدأ يحتل جسدها مرتفعاً إلى الأعلى، متنازعاً مع روحها الواهنة الخاسرة موقعاً هنا والمستسلمة في آخر.. إلى أن خسرت آخر معاقلها ووثبت فارةً من الجسد الذي خر ساقطاً تحت وطأة الموت.. كان المشهد أكثر ألماً.. تدافع الحاضرون... تجمهروا حولها. خطوة.. ثم خطوة أخرى... أو ربما أكثر كانت تفصل جواد عن ساحة الموت لكنه لم يقترب أكثر .. استدار ونفسه تردد: لا تتألم الشاة المذبوحة حين تسلخ. فليفعلوا ما يشتهون. في ذلك الصمت الثقيل كانت روحها المطوقة في المكان تصرخ. الحكاية الأولى...الحكاية الثانية...الحكاية العاشرة..الحكاية المئة..الحكاية الألف.. والحكاية المليون. وكل الحكايات تقول: يالخسارة الرجال. |
|