|
ثقافة هي حكاية جسد ينصاع لهذا النو ع من التعبير الفني مرّة، ليعود يثور مرّة ثانية عبر اختلاساته لتوظيفات هائلة لطاقة الفلامنكو. ألا يخطر في البال عند متابعة هذا الفن، تساؤل عن ارتباطه بمعنى الثورة.. ثورة الجسد؟! أوليس الجسد المؤدي (الفلامنكو) في حالة ثورة، تمرّد، حالة انبعاث وخلق جديدة للروح الرابضة ما وراءه؟ عرض الفلامنكو (نار ورمل) الذي قدّمته فرقة (تاتيانا غاريدو) مؤخراً في دار الأوبرا يحاول السير صوب هذا الاتجاه ، يبهر في رسم ذلك بغاية الجمال والروعة.. يحاول تحقيق نوع من التوازي ما بين الجسد.. وخصوبة تربته.. ما بين حريقه وبرده. فلامنكو بإسقاطات رقيمة في اللوحة التي تؤديها (تاتيانا) على نغم آلة الغيتار، الصديق الوفي لهذا النوع الفني، يقدم الفلامنكو هنا بلبوس تقني حديث..فالراقصة لا تبدو بجسدها متقدمة الخشبة، وإنما تحجبه شاشة بيضاء وما يظهر هو ظلها .. وغالباً ما بقي الجسد في هذه اللوحة ساكناً، لصالح حركة الذراعين ولاسيما حركة الكفين .. هما يبدوان وكما لو أن موسيقا الغيتار تضبط إيقاع حركتهما، ليعودا بدورهما يرسمان النغم ويجسدانه حركةً. مزاوجة جميلة وظريفة ما بين الموسيقا والحركة. في اللوحة التي سبقت (مارتينيت) انصهر الغناء مع الرقص ، أما الموسيقا فجاءت مستخلصة من حركة الجسد الراقصة، إضافة إلى ضربات عصي خشبية على منصة المسرح أداها موسيقيو الفرقة. ثنائية الأداء ما بين الراقصة (تاتيانا غاريدو) والراقص (خافيير سيرانو) كانت وفق مبدأ التنافر والتجاذب.. هما يدنوان.. يبتعدان.. يتنافسان في مناورة تستنطق كامل أعضاء الجسد.. أسلوبية تحبس كل الطاقات والحركات داخل جسد، تتحيّن الوقت المناسب لإعادة تفجيرها ، في خطوات متناسقة، متراصّة، متلاصقة ، دقيقة ولا تخطئ.. هندسة فطرية حركات وإيقاعات الجسد المضبوطة باتساق وحرفية عالية توحي بنوع من هندسة تلك المنظومة الحركية الكاملة لكل أعضاء الجسد. في اللوحة التي أداها (خافيير) وحيداً،، هناك استتباع للحركات ، كل حركة تأتي بالتي بعدها، تولدها ، وكأنما الطاقة التي لدى الراقص تأبى أن تنفد.. في كل مرّة تظن أنه يختم لوحته.. يرجع مستعرضاً شيئاً جديداً مختلفاً وساحراً ، هو يحاول استنهاض مخزون كل جزء جسدي، يفجر ما كمن من تلك الطاقة غير الملحوظة.. يوقظ ما غفي منها.. ويخلق موسيقا جسده ضارباً إياه بكفيه في مختلف أنحائه. جسد يكتسي الفلامنكو: من الواضح أن الراقصة (تاتيانا غاريدّو) تعتبر من أهم راقصات الفلامنكو في هذه الأيام، تستند في رقصتها إلى نوع من التجسيد- التشخيص، كما لو أنها تقدم حكاية تعبر عنها رقصاً. شخصيات تلبسها تاتيانا .. تتباين أحياناً ، وهنا تعمد إلى استخدام كامل تعابير وجهها.. هو حيناً ثائر غاضب أو ربما كان متحفزاً إلى اقتناص شيء ما، كما في لوحة ثنائية الرقص مع خافيير.. ثم يبدو مشرقاً مبتسماً متوجهاً مباشرةً للجمهور كما في لوحتها المنفردة الأخيرة. على الرغم من أن رقصات الفلامنكو هي رقصات فردية أو ثنائية - كما في العرض- إلا أنها وبسبب تشبعها الحركي، امتلائها الحركي، تتميز بمقدرة الراقص على ملء الخشبة . (تاتيانا)و(خافيير) كل منهما ملأ الخشبة بأسلوبه الفاتن المدهش. فبينما تبدو رقصة (خافيير) سريعة الإيقاع وغنية الحركة - نسبياً- تظهر رقصة (تاتيانا) أكثر عمقاً ، هي تؤدي بأسلوب يوحي أنها تمنح كل إيماءة حركية وقتها الكامل ولاسيما، عندما تستخدم يديها، وما أكثر ما تستخدمهما. في بعض الأوقات يتسرب إليك وهم أنها تراقص، بسبب تركيزها على ذراعيها ويديها، أحداً آخر يوجد أمامها على الخشبة يشاركها متابعة اكتشاف هذا التعبير الفني.. الذي يخلق ثورة خاصة بالجسد تأخذ أقصاها ومداها من تلك الضربات - الطرقات الموجعة التي توجهها أقدام الراقص متحدياً صلابة الأرض (الخشبة). |
|