تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بؤس الشاعر..

ثقافة
الاثنين 21-12-2015
عقبة زيدان

تنطبق على كثير من الشعراء مقولة ألبير كامو (لم أتعلم الحرية من كارل ماركس، وإنما تعلمتها من البؤس). نعم، يكون البؤس كفيلاً بتعليم الشعراء (الحقيقيين) الحرية. ولكن ما مدى البؤس الذي يصيب الشاعر كي يتحول إلى معلم للحرية وليس متعلماً لها فقط؟

يانيس ريتسوس - المولود عام 1909 في اليونان - مثال للشاعر البائس المقموع في حياته. ولد لعائلة فقدت كل ثروتها، ثم توفي أخوه بمرض السل، وتبعته الأم حزناً عليه. وأدخل الأب مشفى الأمراض العقلية، وتبعته ابنته. وبقي الشاعر وحيداً، ولكن مع مرض السل الذي سيلازمه حياته كلها.‏

عاش فقراً مدقعاً. دخل مصحاً لمرضى السل، وتعرف على مثقفين وثوريين، ودخل في صفوف الحزب الشيوعي اليوناني، وهو في الثانية والعشرين، آملاً أن يرى هؤلاء العاطلين والجياع والمشردين والكادحين ينعمون بحياة أفضل، حياة لا يكونون فيها ضعفاء ومهزومين ومرضى على حافة الموت.‏

فقره دفعه إلى العيش في ملجأ للمرضى الفقراء، وهو عبارة عن غرفة باردة، سقوفها مهدمة، وكلما أمطرت السماء، فتح المرضى مظلاتهم على الأسرة كي يحموا أنفسهم وأسرتهم. ولم يكن ريتسوس يملك خياراً آخر للسكن سوى هذا المكان، الذي يجتمع فيه عدد من الفلاحين الأشقياء الذين هدهم مرض السل، وفقدوا كل ما يجعلهم ينتمون إلى الجنس البشري.‏

وبسبب انتمائه للحزب الشيوعي، عمل في منظمة ثقافية وتعلم التمثيل وألقى الشعر وجرب الإخراج المسرحي، وأدى أدواراً صامتة. ولم يلهه كل هذا عن الكتابة والعمل النضالي.‏

تعرف إلى ناشر ثوري، وبقي معه عشرين عاماً، يعمل قارئاً ومراجعاً للمطبوعات الأدبية.‏

كانت اليونان - الحلم، يونان ريتسوس ورفاق المعركة ضد الظلم، ما تزال ترزح تحت سوط الملك جورج الثاني، الذي كانت قواته تفتح النار على المعتصمين والمضربين.‏

شاهد ريتسوس في جريدة الحزب الشيوعي صورة أم تنحني باكية وسط الشارع قرب جثة ابنها القتيل. وكتب قصيدة بعنوان (الشاهدة)، ما تزال من أهم القصائد اليونانية الحديثة، وقد أصبحت حينها أغنية ثورة، اضطر على إثرها الجنرال (ماتكزس) أن يمنعها ويحرقها في الساحة العمومية مع كتب أخرى:‏

يا حبي.. لم أفقدكَ‏

إنكَ تسيل في شراييني‏

فادخل في عمق شرايين الجميع‏

ولتحيا.. يا ولدي‏

بعد (الشاهدة) كتب ريتسوس (أغنية لأختي)، التي قال فيها شيخ شعراء اليونان بالاماس مخاطباً ريتسوس: (إننا نبتعد أيها الشاعر، فلتتقدم!!)، وكتب عنها نيكوس كازانتزاكيس: (أعتبرها قصيدة جريئة، نفسها كبير).‏

بعد الحرب العالمية الثانية بدأت الحرب الأهلية اليونانية، وهُزمت القوات اليسارية، وفي السنة التالية اعتقل ريتسوس في أثينا، ونفي إلى جزيرة لمنس مع مائة ألف من رفاقه. ثم نقل إلى سجن جزيرة (ماكرونيسيوس) سيئة الذكر، وهناك تعرض إلى شتى أنواع العذاب، ورفض أن يخرج من السجن، لأنه لم يوافق على شرط توقيع (إعلان الندم)، وصرخ في الضابط المسؤول: (إن موتي انتصار به تكتمل أعمالي).‏

طالب مثقفو أوروبا بالإفراج عنه، وحرصت السلطات ألا تجعل منه (لوركا اليونان) فنفته السلطات إلى جزيرة أخرى. وهناك كتب أجمل قصائده، وأشهرها قصيدة (روميوسيني) التي تعد تحولاً جذرياً في حياة ريتسوس الشعرية، والتي منحته شهرة عالمية، وصار معها هوميروس عصره:‏

إن هذا البلد صلب كالصمت‏

يعصر في أحضانه.. ما توهج من أحجاره‏

ليس هناك ماء.. ضوء فقط‏

أطلق سراحه 1952، ثم ألقي عليه القبض بعد الانقلاب العسكري للملك قسطنطين، وهو في الثامنة والخمسين ونفي إلى معتقل جزيرة (ياروس)، ثم إلى جزيرة (ليرس)، ثم إلى جزيرة (سامس) تحت الإقامة الجبرية، ومنع من الاتصال مع الخارج.‏

كان ريتسوس صديقاً للعرب ومناصراً لقضاياهم، ومسانداً لقضية الشعب الفلسطيني، ويقول: (أنا أحب العرب وأساهم في نضالهم.. إن كل من عرفت منهم حتى هذه اللحظة أناس منفتحون ومنفعلون بالعالم وممتلئون بالحيوية).‏

توفي ريتسوس عام 1990، عن عمر واحد وثمانين عاماً. نال الجائزة العالمية للشعر فقط، مع أنه كان بين الأكثر جدارة في نيل نوبل، التي لم يتجرأ أصحابها على منحه إياها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية