|
ملحق ثقافي ويثير العواطف الراكدة ويقرّب ما هو بعيد عنا، ويبعد عنّا ما تراكم على أرواحنا من سخام ويكشف المغيّب، ويغيّب المكتشف. إن مهمته تجديد العالم وبعث الحياة بعثاً جديداً فلا يبقينا لسلة المهملات لا تتلقّى إلا ما يُلقى كقشور تساقطت عن ثمارها.
نعم نحن اليوم مع شعر لو قشّرْتَ ثمره لما عثرتَ على لبٍّ ولا على نواة. فما الذي حدث للشعر وما الذي أصابَه؟ سؤال لا أستطيع الإجابة عليه، ولكن ما يعزّينا هو أننا في هذا العدم الشعري، لا نعدمُ بين حين وآخر ظهور شاعر يمسكُ بأيدينا ويقودنا رغم إرادتنا إلى عالمه الشعري لنجد هناك بعض العزاء وبعض الثراء وبعض الهناء، لنعود إلى تفاؤلنا، قاطعين على التشاؤم طريقه، مؤمنين بأن الشعر لن يكون عدماً، ولن يكون صحراء جفّ ماؤها واصفرّتْ خضرتها، وطمتْ رمالها ونضمُّ صوتنا إلى صوت هايدغر الذي يقول: إن الإنسان مدعوٌّ لكي يسكن بشاعرية على الأرض، وليست الشاعرية مجرّد لون أدبي بل هي جوهر الإنسان، ولكن هذه الشاعرية مفتقدة اليوم لا نكاد نلمسها إلا كما نلمس السعادة التي تشعّ وتختفي كأنها برق خريفيّ لا يضيء ولا يبشّر بالمطر. لقد صار زمننا عدوّاً للشعر، واستطاع أن يحاصره ويجعله كسلعة معروضة، لم يعُد الشعر جوهر الطبيعة، أي جوهر الإنسان، ولم يعد رفيق فصولها يزهو زهوها، ويحمل ألوانها وأسرارها وأيُّ معنى للشعر إن لم يكن تعبيراً عن جوهر الإنسان وقد انجلى عنه صدأه وما راكمه عليه التاريخ من سواده. لقد خلق الله هذا العالم قصيدة كاملة، حملت معانيها العميقة وصورها الفاتنة وأسرارها التي لا تنضب، وجعل هذه القصيدة معيناً للشعراء، يستلهمونها ويستمدّون منها رؤاهم وأحلامهم، وأغراهم بها ليذهبوا بعيداً في أعماقها متجاوزين القشّ والحصى ليصلوا إلى جوهرها، لتفتح لهم كنوز المعرفة أبوابها فيحملوا إلينا منها ما يدهشنا ويسعدنا، ولكنّ إنسان زماننا حوّل طريقه عن هذه الكنوز، وصار صناعياً تكنولوجيّاً مخالفاً الطريق التي توصله إلى روح هذه الطبيعة وقدسيّتها وجمالها وأصبحتْ المادة بالنسبة له هي الدُّمية الوحيدة التي يلهو بها كما يلهو الطفل بدميته البلاستيكية... ولهذا نرى الشعر مسكيناً بائساً يندب حظّه ويتساءل مع نفسه إلى أين وفي أي طريق أسير؟ مع كل هذه الشكوى المرّة أدعو نفسي إلى التفاؤل وأن لا ترتمي في لجة اليأس فصيف الشعر مهما كان حاراً وجافّاً فإنه بين حين وآخر يحمل غيوماً ممطرة مخصبة تبعثُ الحياة وتجدّدها، وكذلك خريفه فقد يُطلع ألواناً من الزهر لا نرى ما يفوقه جمالاً في فصل الربيع، فنحن اليوم بين وقت وآخر يطلع علينا شعراء لم نكن سمعنا بهم أو قرأناهم سابقاً يبعثون لدينا أملاً بأن الشعر لن يغادرنا، وأنه سيبقى معنا لحناً وجودياً، يهذّب حياتنا ويجمّلها ويدخل فينا مجدداً لأعماقنا، منيراً لظلمات قابعة تراكمت فينا بفعل السلوك الإنساني المتردّي. أستشهد الآن بفقرات أقرأها في ديوان جديد صدر حديثاً عن دار بدايات لشاعر لم أره حتى هذه اللحظة، ولم أسمع باسمه إلا مكتوباً على غلاف ديوانه، أنطون دوشي، طلع علينا فجأة كما تطلع زهرة في حديقتك لم تكن تعرف أنها ستُنبتُ مثلها، فتفاجئك بلونها ورائحتها وشكلها، وتحوِّل نظرك إليها باهتمام متسائلاً من أين جاءت هذه الزهرة وما سرُّ جمالها؟ كثيراً ما كانت الغيوم تسدُّ طريقي وأنا قاصدٌ بلاد الشمس لكنّ هذا ما صدّني يوماً من أن أسير نعم كلّنا هذا الذي تسدُّ طريقه الغيوم، ولكن علينا أن نسير. ويقول: في بعض الأحايين ألعن الطريق المستقيم لأن الاستقامة تقصيني عن مطاردة المنعرجات وحكمتها. ويقول: حين أحتقرُ ذاتي لقبح يسكن فيها فهذا سموٌّ ورقيٌّ قد وصلت إليه... ليتنا نفعل فعل الشاعر. سيّدي: أنا دهوشٌ ببلاغتك لكن... جلّ أقوالك لا تُفهم إلا بالتأويل لماذا هذا الإبهام. هكذا الشعر يطهّرنا، يدعونا لتطهير الذات، ويدعونا لتطهير اللغة، ويدعونا لتطهير العالم. لن أكثر الشواهد، ففي ديوان الشاعر وهج 1 توهّج يقشع الكثير من ظلمات النفس والروح. وقد اعتمد الشاعر في أسلوبه ما ميّزه بخصائص انفرد بها. فقد جعل من النثر شعراً ومن الشعر نثراً، فأبدع شعراً ثالثاً تميّز به، وحمّل الفلسفة خيالاً كما حمّل الخيال فلسفة ثم صهرهما بأسلوبه الخاص، فجاءت أقواله عميقة وصادمة وفاضحة للواقع مقدّماً للقارئ ما يخبئه القارئ في نفسه ولا يستطيع الكشف عنه. إن في جمجمة هذا الشاعر، الذي يكاد يكون شاعراً بالفطرة، نهاراً يقشع كثيراً من ظلام ليلنا... لقد تجاوز السطح ذاهباً نحو الأعماق بأدواته البسيطة التي خلتْ من الصنعة والتكلّف. لقد حمل في شعره بذور الثورة التي نحلم بها. |
|