تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


سياسيون وشعراءعلى سبيل الإعارة

ملحق ثقافي
16/6/2009م
خضـر الأغـا

عندما يبقى سؤالٌ يخص بلداناً وشعوباً وتاريخاً لمدة قرنين من الزمن سارياً، ويمكن طرحه على امتداد ذينك القرنين، دون أن يحقق أية نتائج إيجابية، فذلك يعني، ربما، أنه سؤال خطأ.

نحن لم نزل نقرأ إلى الآن سؤال “النهضة العربية” الأساس: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟ ولم نزل نقرأ الكثير من الكتب التي حاولت الإجابة على ذلك السؤال. لكن النتيجة، بعد قرنين من الزمن على طرح السؤال، بائسة. فالغرب يوالي تقدمه و”نحن” نوالي تخلفنا. وذلك على اختلاف جدية وعمق المحاولات التي بذلت للإجابة.‏

يمكن اعتبار محاولات النخب العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال آخر تلك المحاولات الجادة وأكثرها عمقاً.‏

لقد وجد بعض السياسيين والشعراء العرب أنفسهم بعد الاستقلال أمام مجتمع يجب أن يبنى من جديد، فذهب كل منهم إلى عمله وبناء مشروعه، فكان السياسيون متهافتين على السلطة السياسية – بصرف النظر عن نواياهم – كوسيلة، كما كانوا يدّعون – لتنفيذ مشاريعهم، وكذلك الشعراء العرب الذين وجدوا أن الشعر العربي وصل إلى انزلاقات خطيرة خصوصاً خلال فترة الاحتلالات الأجنبية لبلدانهم، حيث طغى عليه المنطق الخطابي الذي وجد في التقليدية العربية حاملاً له. وحسب طروحاتهم، كان لا بد لهم أن يخرجوه من منزلقاته الخطيرة وأزماته الحادة نحو آفاق رحبة وجديدة، فوجدوا ضالتهم في تبني مشروع الحداثة الشعرية،‏

فظهرت في الأفق العربي شارتان كبيرتان للتغيير: شارة التغيير السياسي بما يتبعه، وشارة التغيير الشعري بما يتبعه كذلك، وانبثقت، استجابة لهاتين الشارتين، ضرورتان: ضرورة الشعر الحديث وضرورة المجتمع الحديث. والمثقفون هم ذاتهم الذين تبنوا، أو اقتنعوا بالأفكار التغييرية ذاتها، وهم ذاتهم الذين استجابوا لشارتي التغيير العربي، إنما بمناطق عمل مختلفة. فعمل السياسي كان سياسياً، وعمل الشاعر كان شعرياً، فذهب السياسي إلى سياسته، والشاعر إلى عزلته. وهما، في هذه المرحلة الدقيقة، لم يكونا ضدين، بل ربما أصدقاء أو رفاق أو أشقاء. إلى ذلك، كانت المشاريع السياسية الكبيرة جداً، كمشروع جمال عبد الناصر، حيث طرح ونقل فكرة القومية العربية والوحدة العربية إلى الشارع العربي. تقابلها، في الأفق ذاته، مشاريع شعرية كبيرة جداً كذلك: كشعر الرؤيا، وتغيير العالم شعرياً.. إلخ، وفق ما طرح شعراء الحداثة. كان هدف السياسيين بناء مجتمع حديث (يلاحظ أنني أتحدث عن الفكرة المطروحة، فأصفها، دون النظر إلى المصداقية وعدمها، ودون النظر إلى النتائج، أي أصف ولا أقوّم)، وهم، كانتماء طبقي، برجوازيون صغار، فمشاريعهم إلى ذلك، كانت إما اشتراكية أو رأسمالية، أو أي شيء آخر، لكنها، بكل الحالات، ليست إقطاعية، فالتاريخ لا يعود إلى الوراء، فأسقطت من تحالفاتها الإقطاع وقطعت كل إمكانية لاستمراره، على الأقل في خطابها النظري، هو الذي كان لحين صعودهم إلى السلطة السياسية، في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، صاحب القرار السياسي، وعلى هذا كان لا بد من إسقاط واستبعاد لغته – بلاغته، بوصف اللغة ممارسة اجتماعية – سياسية – ثقافية.. وبالنتيجة، كان لا بد لهم من لغة – بلاغة جديدة تحمل أفكارهم الجديدة. في هذه الأثناء، كان الشعراء، بوصفهم عمال لغة، يقيمون حفرياتهم في الفضاء ذاته، فضاء اللغة لتفجيرها وحقنها بمدلولات جديدة، ذلك إنهم حداثيون، والحداثة الشعرية تضع مسألة تفجير اللغة وإعطائها أبعاداً جديدة ومغايرة في أولى اهتماماتها، فهي ليست وسيلة للتعبير بل أفق للكشف، فامتلكوا اللغة الجديدة، وصارت حقلهم الأثير.‏

السياسيون بلا لغة إذاً، والشعراء عمالها وأسيادها، فلماذا لا يستدين السياسيون من الشعراء لغتهم، ويعوضونهم فيما بعد؟! إنها فكرة مثيرة (...) لا مانع لدى الشعراء، فهم يمتلكون اللغة، ولكن يفتقدون الناقل – وسيلة الإعلام لإيصال ما يريدون، الفكرة تزداد إثارة، واحدة بواحدة: اللغة مقابل الإعلام.‏

وكان ذلك، فالفكرة المثيرة يجب أن تتحقق، وهكذا تم تبادل الفائدة، لقد استفاد السياسيون من لغة الشعراء وبلاغتهم، واستفاد الشعراء من وسائل الإعلام التي يملكها السياسيون. وإذ وصل السياسيون إلى السلطة، ازداد الأمر إغراءً، فامتلكوا ليس وسائل الإعلام البسيطة – جريدة، مجلة، بل وسائل إعلامية ضخمة – جرائد – مجلات، إذاعات، وفيما بعد تلفزيونات، فتحولوا – هم – إلى أبطال وطنيين وقوميين في نظر الشارع العربي عبر استخدامهم بلاغة جديدة قادرة على إيهامه بجدوى مشاريع أصحابها (لست في معرض ذكر النتائج سواء كانت مشاريع وهمية أم حقيقية، فذلك شأن آخر لا هدف لهذه المقالة به) وتحول الشعراء إلى أولي أمر الشعر والثقافة بأجمعها، فكل ما يريدون قوله، يقولونه ويصل، بصرف النظر، كذلك، عن جمالية وعمق ما يطرحون شعرياً. أستطيع أن أؤكد ما أدعيه، من خلال اطلاع بسيط على الخطابات السياسية في تلك الفترة لنجد أن اللغة الطافية على السطح، هي لغة الحرية، التحرر، البناء.. إلخ (يمكن الرجوع إلى خطابات جمال عبد الناصر، كمثال..) وهذه اللغة أتت من الخطاب الشعري (يمكن الرجوع إلى نصوص الشعراء في الفترة ذاتها، لنرى ازدحام نصوصهم بهذه المفردات..) ونتيجة لذلك، حدث اختلاط بين اللغتين (أو بين المفردات، للدقة) فانبثق مفهوم: الالتزام. وتبعاً له، ظهر مفهوم: الشعر الملتزم قضايا الأمة والوطن.. إلخ، وهذه مفاهيم سياسية بالدرجة الأولى، وربما نتيجة لهذا الاختلاط المفاهيمي – اللغوي، والاختلاط في الطرح الذي أدى إلى كتابة القصيدة السياسية، تكشفت الاجتهادات الثقافية العربية عن مفهوم: الثقافة والسياسة، وظهرت دعوات متباينة في هذا الشأن، فمنهم من دعا إلى الفصل بينهما مع أسبقية الثقافي، ومنهم من دعا إلى عدم إمكان ذلك، لحضور السياسي في كل تفصيل حياتي وثقافي، وأخشى أن أكون جاهلاً إذا ادعيت أن هذه المسألة حسمت(...) وحيث إننا ما زلنا في البدايات، فالسياسيون في بدايات وصولهم إلى السلطة، والشعراء في بدايات تأسيس مشروعهم، فإن ما أدعوه تبادل الفائدة ليس أمراً سيئاً، فجميعهم متحدر من البنى الفكرية ذاتها، وجميعهم يطرح الطرح ذاته، وهم معاً استجابوا لشارتي التغيير العربي: الشارة السياسية، والشارة الشعرية. إن تبادل الفائدة هذا كان أمراً خيّراً للجميع: السياسيين والشعراء والشارع العربي.‏

في تلك الفترة (خمسينيات وستينيات القرن العشرين) كانت تؤسس مرحلة عربية كبيرة حقاً واستثنائية ربما منذ العصر العباسي، فقد ظهر فيها – إضافة للفكرة القومية، والحداثة الشعرية – أفراد كانوا أيضاً استثنائيين: فيروز والرحابنة، أم كلثوم، عبد الحليم، فريد الأطرش...، وكان نهج وقيم بعضهم مستمراً بفعالية: أنطون سعادة، جمال عبد الناصر، وآخرين كثر... لكن الأمر السيء حدث فيما بعد، بعد أن فشلت البرجوازية الصغيرة في تحقيق مشاريعها، وتحولت نتيجة التراكم الرأسمالي إلى برجوازية (كبيرة..) وكان همها تمرير مشاريع الآخرين: الأجنبي في الخارج، والرجعي في الداخل، كشرط لاستمرارها في السلطة، وكي تُكمل صورة الوهم بحضاريتها ومشروعيتها، كانت تحتاج إلى مروجين لذلك وإلى أبواق إعلامية فوجدت في شعراء الحداثة من هو مستعد، كتبادل فائدة كذلك، لذلك، إنما هنا، بالصورة المنحطة. هي استفادت منهم كأبواق من جهة، وكتجميل لسياستها وصورتها من جهة أخرى، وهم ضمنوا - إضافة إلى الوضع المادي -بقاءهم على رأس القرار الثقافي، وبقاء أسمائهم في التداول كأصحاب مشروع شعري. أما الشعراء الذين لم يدخلوا هذه اللعبة، وهم قلة، نتيجة جدية مشروعهم ومواقفهم، فقد تم حجبهم عن وسائل إعلام تلك السلطات، وتم حصارهم من قبلها كذلك، فانقسموا إلى قسمين: قسم غادر إلى خارج البلدان العربية ليواصل تأسيس مشروعه، وقسم غادر إلى عزلته ليواصل عمله بصمت، هؤلاء الشعراء بقسميهم، من غادر ومن لم يغادر، وجدوا في إحدى مراحلهم أن الإقامة في لبنان شرط لازم لإتمام الشعرية، وهم محقون، فلبنان كان، آنذاك، كأنه يتشكل في سياق مختلف عن سياقات الدول العربية، وكأنه لم يكن معنياً إلا بالتنوع والثقافة والشعر وكأنه كان معمدان الشعراء، فمن أقام فيه كأنه غادر البلدان العربية، أو كأنه غادر إلى عزلته، كلاهما صحيح من حيث النتيجة. ومن حيث النتيجة أيضاً، فالجميع – شعراء السلطة، أو الذين صنعتهم السلطة، أو شعراء الحداثة الحقيقيين – استفاد من الإعلام المطروح أمامه، كتبادل فائدة، فالذين اتخذوا مواقف مناهضة لسلطاتهم، جاء ذلك بعد أن تقدموا مراحل هامة في تأسيس مشروعهم وصاروا نجوماً على المستوى الثقافي – الشعري العربي – وأسسوا سلطات خاصة بهم: سلطات شعرية، وكانت (ولم تزل) نظرتهم إلى كل نص شعري منطلقة من نصوصهم هم، فإذا جاء متوافقاً مع رؤيتهم وطريقتهم في الكتابة، اعتبر نصاً شعرياً جيداً، وإذا كان مختلفاً فإلى سلة المهملات. ومن لم يستطيعوا أن يكونوا سلطة شعرية، نتيجة ضعف موهبتهم وثقافتهم.. فإنهم اتكأوا على السلطة السياسية التي حولتهم إلى سلطة شعرية، إنما بالقوة - قوة الإعلام.‏

هكذا، عندما يظهر مشروع كبير ويظهر له مريدون ومؤمنون، فإن أموراً كثيرة تتضافر، على نحو ما، غامض أحياناً، لتحقيقه، أو تحقيق جزء منه، فقد تحقق مشروع الحداثة الشعرية العربية. أما سؤال النهضة الأساس فيتوجب علينا أن نبحث من جديد إن كان قد تم تعديله في المشاريع الناجحة، أم أن الأمر ينطوي ملابسات وحيثيات أخرى؟‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية