تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قالوا قبل استشهادهم

مئوية الشهداء
الأربعاء 4-5-2016
من منا لايعرف هذا اليوم, ويذكر هذا التاريخ بشعور من الكرامة والاعتزاز؟ ومن منا لايدرك مغزى التضحية بالنفس والفداء بالروح في سبيل الاستقلال والحرية؟

ومن منا لايذكر هؤلاء الأبطال الميامين الذين تقدموا من حبال المشانق مؤمنين حتى الرمق الأخير بانتصار قضيتهم العادلة؟‏

‏‏

ان حاضرنا الذي نعيشه, ومستقبلنا الذي نصنعه مدينان لقوافل الشهداء الأشاوس عبر تاريخنا الطويل, وإلى تلك القافلة المجيدة التي خطت بدمائها الزكية ذكرى السادس من أيار في سفر حريتنا المفداة.‏

منذ أواخر القرن الماضي ولدت في الوطن العربي الفكرة القومية, وشعر المثقفون والأحرار العرب بضرورة الانفصال عن الدولة العثمانية, ووحدوا جهودهم من أجل بلوغ أمانيهم الوطنية وانتشرت هذه الفكرة في أوساط الطلبة الذين كانوا يدرسون في استنبول وعواصم أوروبا المختلفة, ومالبثت أن تبلورت في جمعيات وأحزاب قومية على درجات مختلفة من الوعي والتنظيم وكلها مجمعة على هدف واحد, هو استقلال الشعوب العربية, ووحدتها, وضرورة تقدمها, وإلحاقها بالركب الحضاري.‏

‏‏

وقد نادت تلك الطلائع أول مانادت «باللامركزية» وطالبت الحكومة العثمانية بضرورة حصول الولاة والمتصرفين في المناطق العربية على صلاحيات واسعة واستثنائية وأصرت على أن تأخذ الدولة بعين الاعتبار أن هذه المناطق ليست مناطق تركية, وأنها مأهولة بقومية أخرى هي القومية العربية.. وطالبت بأن يكون ولاة ومتصرفو المناطق العربية من أبناء العرب أنفسهم..‏

وفي باريس أسس الطلاب العرب, من مختلف الأقطار العربية, العديد من الروابط والجمعيات, اشتهرت من بينها جمعية «الفتاة» التي ضمت عدداً كبيرا من المثقفين المرموقين, الذين أخذوا على عاتقهم أمر الدعاية لنهضة أمتهم القومية, والعمل على نشر الوعي القومي والسياسي في صفوف هذه الأمة للمطالبة بالاستقلال التام, والانفصال عن الدولة العثمانية.‏

‏‏

ومالبث غلاة الأتراك أن تنبهوا إلى ذلك وأدركوا أن نهضة قومية قد بدأت تشمل العالم العربي, وأن سلطانهم في المنطقة العربية قد بدأ يتهدد بارتفاع مستوى الوعي السياسي والشعور القومي, فقرروا الوقوف أمام هذا التيار, والحد منه, من أجل ان يضمنوا لدولتهم الاستمرار في استغلال الشعوب العربية وامتصاص خيرات الوطن العربي.‏

وغدر( الاتحاديون) الأتراك الذين ثاروا على السلطنة العثمانية بالاحرار العرب, فبعد أن لوحوا بنصرتهم للقضايا التحررية, ما لبثوا أن نكثوا بوعودهم عندما تحققت لهم السيطرة على الدولة وبدؤوا يسوفون في تحقيق مطالب العرب ويكشفون عن وجههم العنصري الكريه, ويمعنون في الدسائس ويلصقون التهم بكل عربي شريف لاينسجم مع خطتهم في استمرار السيطرة التركية على البلدان العربية.‏

‏‏

الدعوة إلى مؤتمر باريس وماكان من الأحرار العرب إلا أن دعوا عام 1913 إلى عقد مؤتمر لهم في باريس, تتمثل فيه الأمة العربية, ليبسط للعرب أماني العرب وحقهم في الاستقلال والتقدم والحرية.‏

وفي يوم الاربعاء الواقع في الثامن عشر من حزيران عام 1913 انعقدت الجلسة الأولى لهذا المؤتمر وأحدثت تصريحات الأستاذ الشيخ عبد الحميد الزهراوي ضجة في الأوساط السياسية الأوروبية, وارتباكا للحكومة العثمانية فقد أعلن الزهراوي بكل جرأة: «إن العرب يؤلفون عنصرا مهما بعدده ولهذا العنصر العربي لغته وعاداته ومصالحه وميوله» وأضاف قائلا: «يهمني أن أصرح قبل كل شيء بأن هذا المؤتمر ليست له صفة دينية» وتكلم في هذا المؤتمر عبد الغني العريسي فقال: «ان العرب يعتبرون حكومة الاستانة غير مستوفية الشروط وانه من الواجب عليهم اتخاذ الوسائل اللازمة للوصول الى حقوقهم» وتحدث ندرة مطران عن وحدة الامة العربية بجميع طوائفها واقطارها.‏

‏‏

وقد كان ذلك المؤتمر صفعة قاسية للسياسة التركية, ولكن غلاة الاتراك كبتوا غيظهم في صدورهم بسبب من مشاكل الدولة والحرب العالمية الأولى وكان (جمال باشا) على رأس هؤلاء المتعصبين الذين يعدون العدة للانتقام من احرار العرب, فعندما قام بحملته الفاشلة على جبهة ترعة السويس وعاد مندحرا الى سورية بدأ يهتم بجمع المعلومات عن هؤلاء الاحرار,ليتمكن من تقديمهم الى (الديوان الحربي) الذي شكله في (عاليه) وكان لابد له من اجل الوصول الى مآربه الدنيئة من تلفيق الاتهامات ضد هؤلاء الابطال ليستطيع التخلص منهم.‏

وقد احس الضباط العرب ورجال الحركة القومية بأن في الخفاء أمورا يجري تدبيرها, وجرى التفاهم فيما بينهم على عقد مؤتمر سري عام في مدينة دمشق وحددوا موعد انعقاد هذا المؤتمر في مكان بعيد عن الشبهات, وانعقد هذا المؤتمر بالفعل برئاسة عبد الحميد الزهراوي الذي افتتحه بقوله: (ان هنالك اخبارا سرية تدل على ان الاتراك لاينوون نية حسنة للعرب.‏

عريضة الاتهام‏

وكان رجال جمال السفاح قد فرغوا من تنظيم عريضة الاتهام, حسب ماتقتضي به المصلحة الطورانية, وقد شملت تلك العريضة أسماء كثيرة حكم على أصحابها بالاعدام أمثال: عبد الحميد الزهراوي, عبد الغني العريسي, شكري العسلي, شفيق المؤيد، محمود المحمصاني, محمد المحمصاني, سيف الدين الخطيب, صالح حيدر, عبد الوهاب الإنكليزي, رفيق رزق سلوم, عارف الشهابي, عمر حمد, عبد الكريم الخليل, أمير حمد, حافظ سعيد, علي الارمنازي...واسماء كثيرة أخرى حكم عليها بالنفي والسجن المؤبد.‏

والقي القبض على من هم في دمشق وبيروت عدا العريسي وعمر حمد وطاهر الشريف وتوفيق البساط وعارف الشهابي الذين ألقي القبض عليهم فيما بعد.‏

وقد رأى جمال باشا أن يكون التنفيذ على دفعتين: الدفعة الأولى لاتتعدى الخامس عشر من أب 1915 والدفعة الثانية لاتتعدى شهد أيار 1916, وأن تجري عمليات الإعدام في كل من دمشق وبيروت.‏

وبقي المتهمون عرضة للتعذيب والاستنطاق أياماً طويلة الى ان تم في صباح الخامس عشر من اب عام 1915 اعدام كل من محمد ومحمود محمصاني, وعبد الكريم الخليل, ونور القاضي, وصالح حيدر, وعبد القادر الخرسا، وعلي الارمنازي, وسليم عبد الهادي, ومحمود العجم, ونايف تللو, ومحمد عابدين, ويوسف الهاني.‏

وكانت آخر كلمات الشهيد عبد الكريم الخلي:» أبلغوا السفاح جمال باشا أنه سوف يكون اعدامنا أكبر برهان على ذهاب ملك آل عثمان».‏

واستطاع أعوان جمال باشا بعد فترة قصيرة أن يلقوا القبض على عبد الحميد الزهراوي الذي صعد الى المشنقة بخطى ثابتة, والتفت الى الحاضرين وقال:»ان العناية ترعى وطننا العربي الحبيب, واننا سوف نصل الى الحصول على استقلالنا كاملا بعد ان ننتقم من الخونة الاتراك» وتلاه شفيق المؤيد الذي قال:»ان وطننا سوف يتمكن من الحصول على استقلاله رغم جمال باشا».‏

وتلاه رشدي الشمعة وشكري العسلي وعبد الوهاب الإنكليزي.‏

ولم يشرق فجر السادس من أيار 1916 حتى كان الشهداء الابرار في عاصمة الامويين قد فارقوا الحياة.‏

وفي بيروت‏

وسرى الخبر سريان البرق في ارجاء البلاد العربية, وازدادت مخاوف الناس في بيروت, اذ كان في سجونها أبطال اشاوس احبهم الشعب, وقدر تضحياتهم, ولكن الاتراك كانوا مصممين على التخلص منهم.‏

وفي فجر السادس من أيار بدأت الجريمة المنكرة التي ذهب ضحيتها كل من سعيد عقل واحمد طبارة وعبد الغني العريسي وسليم الجزائري وعمر حمد وامين لطفي وباترو باولي وجرجي حداد.. كانوا أربعة عشر شهيدامن خيرة المناضلين البواسل.‏

الكلمات الأخيرة‏

قال باترو باولي: «عجلوا بنا وخلصونا من وجوهكم اللعينة.. كان الأولى بكم بدلا من ان تفحصوا اجسامنا, ان تحاكمونا بعدل, اننا لانخاف الموت».‏

وصعد سعيد عقل الى المشنقة بجرأة نادرة, وهو يقول:» اسأل الله أن يكون دمي الذي يراق سببا في المستقبل لحياة بلادي, وشرفا لعائلتي واولادي».‏

وانتصب عبد الغني العريسي ليقول:» بلغوا جمال باشا أن الملتقى قريب, وان أبناء الذين يموتون الان سيقطعون في المستقبل بسيوفهم أعناق ابنائك الاتراك.. ان جماجمنا ستكون أساسا لمستقبل بلادنا»..‏

وجاء دور الشاعر عمر حمد الذي قال:» اني اموت غير هياب ولاخائف ولاوجل فداء الامة العربية فليسقط الاتراك الخونة.. وليحيا العرب».‏

هؤلاء هم ابطال السادس من أيار الذين نذكرهم بشعور من الكرامة والاعتزاز.‏

هؤلاء هم الذين عرفوا معنى التضحية بالنفس والفداء بالروح من أجل استقلال بلادهم وحرية شعبهم.‏

ان حاضرنا الذي نعيشه, ومستقبلنا الذي نصنعه مدينان لقوافل الشهداء البواسل عبر تاريخنا الطويل, والى هذه القافلة المجيدة التي خطت بدمائها الزكية ذكرى السادس من أيار في سفر حريتنا المفداة.‏

واننا اليوم.. اذ نكافح الاستعمار والاستغلال والرجعية ونبني مجتمعنا الاشتراكي.. ننحني اجلالا لذكرى هؤلاء الميامين الذين ناضلوا من أجل استقلال البلاد وسعادة الشعب, وضحوا بأرواحهم في سبيل مجتمع عربي موحد متحرر متقدم....‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية