|
الصفحة الاخيرة في صيف يوم من أيام تموز أوائل الثمانينات كان أبوداود يصلي العصر قرب محرك المياه في (الجزيرة 5 مشروع دمر ) عندما أُطلق صاروخ امريكي قادما من شواطىء لبنان (قيل إنه بالخطأ , وقيل إنه دعابة أمريكية) تطايرت شظاياه من فوق رأس أبي داود من دُبُر , ونفذت بعضها في الجدران المصنوعة من الاسمنت المسلح (الكوفراج) فأعطبت (250) شقة سكنية, وأودت بحياة امرأتين وطفل صغير , وأوقعت عددا من الجرحى. هبط الناس من بيوتهم يسيلون في الساحات وسط جو ضبابي خلط السماء بالأرض بمعالم الكون. أما أبو داود (المصاب بالصمم) فقد لوحه ضغط الانفجار وأطاح به على الأرض. فلملم نفسه ووقف يضيق فرجة عينيه وينظر الى الناس مشدوها يتحركون في سجف الغبار كالأشباح فاقترب منهم قائلا: (ماذا جرى?). قال أحد الشعراء على لسان الأعمى: أماه ما شكل السماء وما الضياء وما القمر بجمالها تتحدثون ولا أرى منها الأثر والمرء هذه الأيام يتمنى أن يكون أصم أبكم أعمى لايطيق النظر الى وسائل الإعلام ولاسماع أحاديث الناس, وكلها لاتزيده إلا قهرا على قهر, وعُصابا على عصاب. في أوائل السبعينات كنت مدرسا معارا في الجزائر فتعرفت الى زميل فرنسي نشأت بيننا مودة. سألته مرة: ( ألا يشغلكم مايجري في فيتنام مثلا?) قال: ثوابت المواطن الفرنسي التي لايجوز أن تمس ,وظيفة ملائمة , ومسكن مريح, وضمان صحي, وأسعار ثابتة, ودخل يكفيه لشراء سيارة وقضاء عطلة الأسبوع خارج بيئته, وعطلة سنوية خارج فرنسا, ولاشيء آخر (فسألني: (أنتم ما ثوابتكم) قلت: (معاناة شعب زيمبابوي, وإطاحة الجنرال بينوشيه برئيس التشيلي الشرعي أليندي) في أوائل التسعينات في امريكا سألتني امرأة : (من أين أنت?) قلت: (من سورية) فارتسم على وجهها تعبير حيادي (ليكن) ثم سألتني بعد ثوان: (أين تقع بلدكم?) قلت: (في منطقة الشرق الاوسط) فارتسم على وجهها التعبير نفسه. ثم سألتني : (أهي بعيدة عن اسرائيل?) فأومأت بالإيجاب وأنا أكتم قهرا في داخلي فيما لبثت المرأة على تعبيرها الحيادي. في امريكا لايقيم الناس وزنا إلا لوضعهم المعيشي ( لجيبتهم) لأن كل شيء عندهم يخضع لحساب الربح والخسارة, فإن لغزو العراق في حساباتهم فائدتين: الأولى هي انتعاش مصانع الأسلحة. والثانية هي السيطرة المباشرة على النفط , أي على ثاني اكبر مخزون احتياطي في العالم. ,وهي عوامل تجعل الاقتصاد ينتعش فينتعش المواطنون, رغم أن الحصة الأكبر تبتلعها الشركات الاحتكارية, من هنا ينتهبهم إعلام ماكر خبيث. فإذا سمعنا بمظاهرات تندد بالغزو فالدافع الأهم إليها هو الخوف من اختلال ميزان الربح والخسارة. وأكبر دليل على ذلك أن دبليوبوش فاز بولاية ثانية, وهم يعرفون أن الغزو انبنى على كذبة (أسلحة الدمار الشامل). فرانز فانون ( 1925 1961 ) الطبيب والمفكر (من مواليد جزر المارتينيك في البحر الكاريبي) الذي اشترك في الثورة الجزائرية.. والذي فضح في كتابه (معذبو الأرض باللغة الفرنسية ) غطرسة الغرب وفظائع الاستعمار كتب في مقدمة الكتاب: (أنا لا أتوجه الى الغرب فإنهم لايرون ولايسمعون). وتذكرت أحد بسطاء جيرود (أبو حسين) يردد دائما : (أبوك أخوك عمك خالك جيبتك)أي إن خير الانتماء هو الانتماء (للجيبة). وأتساءل: هل المواطن عندنا معصوم عن التفكير في لقمة عيشه, وكرامته? صحيح أن ما نرى من مظاهرات واعتصامات وهتافات لاهبة من الداخل.. ومن العرب الوافدين المؤيدين هو تعبير عن إرادة الصمود وإذكائها. وصحيح أن السوري إذا داهم الوطن خطر ينسى نفسه ويتبرأ من همومه ومن رغباته الخاصة مستعداً أن يتزنر بالصخر ويشمر عن ساعديه. وهل نظن أن المواطن أبله لايعرف من يحاولون اغتيال كرامته ينهبونه ويعاظلون في أسباب عيشه فلا يتهامس الناس بقلب محروق ويشيرون إليهم بالبنان? ومصلحونا تصاب عيونهم بالعشى أمام من يتقدمون فطنة وحصافة رأي وقدرة على ملء الجيوب وصناديق البنوك أعفوا أنفسهم من الاشتراكية وكبّلوا الرعاع بها والبطر يزيّن حياتهم بالخدم والحشم والأزلام والأنصاب والتابعين وتابعي التابعين يغدقون عليهم ماشاؤوا من تسرب وظيفي ونفقات مستورة وسيارات بأنواعها وقسائم بنزين مفتوحة ما لو أضيف الى الميزانية العامة لساهم في إغناء المشاريع ذات الميزانيات القاصرة الشحيحة ولارتفعت الدخول التي شرعت تنساح على الارض. يستلم المواطن راتبه بيده اليمنى وينفقه خلال أيام بيده اليسرى. كما اعتاد مصلحونا أن يحاصروا أذناب الافاعي من صغار الناس يحملقون إليهم بعيون يقدح منها الشرر, يلصقون بهم التهم يذلونهم فتقع عليهم الواقعة فداءً للأعلين نتمنى حتى لايغدو الوطن هشاً كقطعة الاسفنج أن ينتصر الإصلاح على نفسه فيكون : جاداً, صارماً جريئاً. متمثلاً قول الشاعر: لاتقطعن ذنب الافعى وترسلها إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا إن العدو وإن أبدى مودته إذا رأى فيك يوماً فرصة وثبا كنا قبل السماح باستيراد السيارات ما إن يظهر إعلان عن أحدث السيارات على القنوات الفضائية حتى نرى إحداها في شوارعنا خلال أيام بلوحة خاصة! يختال على صهوتها من يبدو الناس في عينيه حبات عدس وحمص. قالت أعرابية لأحد الخلفاء: (كبتَ الله كل عدو لك إلا نفسك). |
|