تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عبـــــارات مأزومــــــــة..!

ثقافة
الاربعاء 26-3-2014
غسان كامل ونوس

ليس غريباً أن تظهر في مراحل محدّدة مؤثّرة في حياة الناس، مفرداتٌ وعبارات بمدلولات مميّزة، أو تأخذ كلمات معروفة معانيَ مستجدّة، وقد تُرَوَّجُ مصطلحاتٌ وأفكار، وتدخل متوناً في ندوات ونقاشات، أو محاورَ في حوارات علنيّة أو داخليّة، يُختلفُ عليها، أو يُتَّفقُ على مدى مناسبتها للحال والواقع والبيئة..

وفي الوقت الذي يأخذ فيه بعض هذه المقولات شهرتَه من التداول المتكرّر، بقصدٍ أو من دونه؛ فإنّ منها ما لا يكون سَرَيانه وتعويمه عفويّاً، أو طبيعياً؛ بل إنّ وراءه جهاتٍ عارفةً بنيات ومقدمات وعناصر وتمويل، وغالباً ما تكون الغاية سياسيّة اجتماعيّة، تهدف إلى بثّ أفكار مغايرة، وإشاعة تصوّرات مختلفة، وابتناءِ قناعات تخدم هذه الجهة المروّجة أو تلك..‏

وليس خافياً أنّ الإعلام هو الساحة الأكثر استخداماً واستغلالاً للعرض أو التسويق، وقد يصل أمر التأثير والتشويش حدّ أنْ نصبح مردّدين آليين لهذه العبارات والكلمات بمفهوماتها الجديدة المقصودة، بلا كبير اهتمام، وبلا حرج..‏

وقد يتضخّم المعنى خارج حدود الكلمة إلى كلمات، وقد يتجاوز زمنه إلى أزمنة أخرى، تطول أو تقصر، حسب التغيّرات التي يمكن أن تحدث، ودرجة هيمنتها.‏

وسأتوقّف هنا عند بعض هذه الكلمات والعبارات، واستخداماتها المأزومة، وقد درجت في هذه الآونة، وقد لا تتوقّف عليها.‏

الثقافة: هناك تعريفات عديدة ومتنوّعة للثّقافة، لا يتيح المجال هنا عرضها والتفصيل فيها؛ وتشترك في أنّ لها معنى إيجابياً حيويّاً إنسانيّاً. ومن الطبيعي أن تُستخدَمُ في المجالات التي تتمثّل هذه الخصائص، أو الأحياز التي تشكّل الخصال هذه أساسها؛ فيغدو الحديث مألوفاً ومستساغاً عن ثقافة العمل، ثقافة الطفل، ثقافة المقاومة، ثقافة التضحية والاستشهاد.. مع احتمال أن يكون مستوى هذه الثقافة في الدراسة والتحليل مرتفعاً أو منخفضاً، فاعلاً أو بارداً.‏

ولذلك يكون من غير الملائم أن تنسب الثقافة إلى أوساط سلبيّة أو حالات انحطاطية، أو مفهومات ظلاميّة؛ مثل: ثقافة الإرهاب، ثقافة الهزيمة، ثقافة الاستسلام، أو التبعيّة؛ فكأنما نجمع متناقِضَين أو متنافِرَين لا ينسجمان.‏

البيئة الحاضنة: منذ بداية العدوان على سورية بهذه الأشكال المستشرسة المستمرة لثلاث سنوات، وعند الحديث عن الإرهابيّين، والمسلّحين الخارجين على أيّ قانون ومنطق ومبدأ، تُستخدم عبارة «البيئة الحاضنة»، قاصدةً المنطقة التي يحلّون فيها، ويقيمون.. ربّما، ويجنّدون بعض أبنائها طوعاً أو كرهاً. وغير خفيّ أنّ الكلمة «الحاضنة» تأتي من الحضن، الذي يشعّ دفئاً وحناناً ولطفاً وقرباً، وضمّاً بحبّ وألفة؛ فهل يمكن أن تنطبق معانٍ كهذه على البيئة التي يهيمن عليها المتمرّدون العصاة، شذّاذ الآفاق، المرتزقة، وأفكارهم المضلّلة، وشعاراتهم الملفَّقة، وتفسيراتهم المشوّهة للدّين وأدبيّاته ونصوصه وطقوسه؟! حتّى لو وجدوا من يسهّل لهم الإقامة، والاستقواء، والسطوة.. مع علمنا أنّ كثيراً من الحالات، فُرضت بالقوّة، أو بالإغراء المادّي، أو بالتّعمية والتّشويش. إنّ مثل هذه البيئات ليست سوى بؤر منتنة، ومستعمرات جرثوميّة، تغتصب المكان، وتستنزف الموارد، وتدمّر البنية، وتقضي على المستقبل؛ فأيّ حضن هذا؟! من دون أن نقلّل من أهمّيّة العامل الاجتماعي، ومسؤولية من يساعد هؤلاء على تمركزهم وتوسّعهم وقيامهم بجرائمهم.‏

النظام: مَنْ هو العاقل الّذي يجاهر بمعاداة النّظام، الّذي يعني الانضباط والالتزام بالقوانين، والعلاقات المحدّدة الميسِّرة لإنجاز المعاملات والأعمال، والتخطيط والتنفيذ والتشريع...‏

النّظام، باختصار،يتمثّل بمؤسّسات الدّولة وآليّات عملها؛ فحين لا يُعجِب أيّاً منّا أيٌّ من هذه المفاصل، أو جلُّها، عليه أن يعمل لتغيير الخلل، وتطوير الأداء بالوسائل المشروعة المعروفة، حتّى لو وجد ذلك غير مسهّل؛ أمّا أن يُطالب بإسقاط النظام؛ فالمعنى المباشر لهذا إحلال الفوضى، وهو مقصود بذاته، ليتاح لمن يخطّطون، ويتربّصون تشكيل ما يريدون، وتنصيب من يضمنون تبعيّته وعمالته. وليس هذا سوى تنفيذ للمشروع الذي أعلنته الولايات المتحدة الأمريكية، وصدّرته إلى العالم: الفوضى الخلّاقة! إنّ ما قامت به العصابات المسلّحة القادمة من الخارج، وتلك المقيمة في الداخل، وما تقوم به إلى الآن، يندرج بشكل واقعي في برنامج تطبيقيّ لذلك، من ضرب لمؤسّسات الدولة، وتدمير لعناصر قوّتها، واستهداف لكلّ ما هو قائم فاعل متماسك، بغيةَ إشاعة الخواء النفسي، والانفلات الاجتماعي، والخراب المادّي، والإفلاس الاقتصادي.. من دون أن نغفل التركيز المقصود على قيادةٍ مقاوِمةٍ وأشخاص وطنيّين لا ينصاعون للأجنبي، ولايتساهلون في موضوع الدفاع عن الحقوق، ولا يعملون وفق الأهداف الأمريكية الصهيونية.‏

سقط شهيداً: لا يصحّ أن يرتبط معنى السقوط بالغ السلبيّة، بمعنى الشهادة، الذي يوحي بالسموّ والارتقاء منزلة إنسانيّة وما ورائيّة، دنيويّة وأخرويّة.‏

كما لا يصحّ استخدام عبارة تتعلّق بالمسلّحين، أو المتورّطين الذين «تُسوّى أوضاعهم»، عند تسليم أنفسهم، ممّن «لم تتلطّخ أيديهم بدماء الأبرياء»؛ فدماء الأبرياء لا تُلطِّخ؛ بل الأيدي التي قامت بالفعل الذي استهدفهم هي الخاطئة، وهي التي تدنِّس، ومن ورائها النوايا القاتمة والغايات الشريرة؛ فالدم البريء طاهر ونقيّ ومحرّم ومظلوم.‏

فالعبارة الصحيحة هي: ممّن «لم تتلطّخ أيديهم بسفك دم الأبرياء»!‏

الحرب الكونية:من المبالغات التي تسري في الكلام والإعلام، حتّى الرسمي منه، عبارة «الحرب الكونيّة على سورية»؛ وفيها عيوب كثيرة، ومنعكسات نفسيّة خطيرة؛ أذكر منها الآن أمرين سلبيّين:‏

- مجافاة الواقع؛ فماذا نقول عن الذين لا يحاربوننا، والذين يقفون معنا، والذين يساندوننا بأيّ شكل من الأشكال، ويتعاطفون مع قضيتنا الوطنية العادلة، من يعبّرون عن ذلك، ومن لا نسمعهم؟! ألا يقترب تعدادهم من نصف العالم؟! ومنهم من استخدم «الفيتو» في مجلس الأمن نصرةّ للحق الذي ندافع عنه!‏

- ليس من مصلحتنا أن يحاربنا الكون كلّه؛ مع ضرورة الانتباه إلى كلمة الكون التي تتجاوز الكرة الأرضية، والمجموعة الشمسية، ومجرّة درب التبّانة، إلى المجرّات الأخرى التي نعرف ولانعرف، بكائناتها ومكوّناتها.. هل في هذا القول أيّ قدر من الحكمة؟!‏

إنّ من المناسب سحب هذا المصطلح من التداول، واعتماد أيّ توصيف يسمّي أصحاب المشروع العدواني علينا: أمريكا وحلفاؤها والكيان الصهيوني، وعملاؤهم في المنطقة والعالم، أو يقترب من هذا التحديد، ويبتعد عن المبالغات التي تعمّم وتضخّم، فتُفسِد وتشوّه وتخيف، وتسيء إلى قيمة الأصدقاء الحقيقيّين، وهم كثر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية