تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مدام بوفاري: الأدب في المحكمة

كتب
الاربعاء 20/6/2007
(الاصغاء بعدل) هوما أراده فلوبير من الناس عندما كتب روايته الشهيرة- مدام بوفاري- يوم دار بعينيه النافذتين مثل (كاميرا)

ورصد مارآه واستشفه واكتشفه بعدساته الأدبية الذكية وكانت النتيجة رواية تفتتح عهداً جديداً في عالم الأدب.‏

حيث وضع فلوبير العالم كله وجهاً لوجه مع الأدب الذي يقول ويفعل.‏

مدام بوفاري طبعت لمرات كثيرة وربما يصعب إحصاءها وحازت مكانتها بفضل جرأتها والفكرة المحورية المطروحة فيها, في طبعتها الجديدة الصادرة حديثاً عن دار المدى ضمن سلسلة أعمال خالدة, ترجمة د. محمد مندور لعل أكثر مايلفت القارىء في هذه الطبعة هو الملحق المثير الذي تضمن (مرافعة الاتهام والدفاع والحكم في القضية التي رفعت على المؤلف أمام محكمة جنح باريس الغرفة السادسة برئاسة السيد دي بارل جلسة 31 يناير و7 فبراير سنة ,1857 حيث إثارة مهمة تسلط الضوء على طريقة الواقع المتمثل بالمجتمع والأخلاق والتقاليد -هي تحاكم الأدب?!.‏

ونجد أنفسنا في قاعة المحكمة نستمع لاتهامات النيابة العامة- مرافعة اتهام المحامي العام أرنست بينار: (إن أمامكم أيها السادة ثلاثة متهمين: السيد فلوبير مؤلف الكتاب, والسيد بيشا الذي قبله, والسيد بيلين الذي طبعه, وفي هذا الموضوع ليست هناك جريمة من دون علانية, وجميع من اشتركوا في هذه العلانية يجب أن ينالوا العقاب ولكننا نسرع بأن مدير ا لمجلة والطابع لايأتيان إلافي المرتبة الثانية, والمتهم الأساسي هوالمؤلف, هو السيد فلوبير- السيد فلوبير الذي نبهته ملاحظة التحرير فاحتج ضد الحذف الذي أجري في كتابه, ثم يأتي بعدد في المرحلة الثانية السيد لوران بيشا الذي ستحاسبونه- لاعلى الحذف الذي أجراه- بل على ذلك الذي كان يجب أن يجريه, وأخيراً يأتي في المرحلة الأخيرة الطابع الذي يعتبر الديدبان الأساسي في الفضيحة).‏

ستلفت انتباهنا حدة اللهجة وصيغة الوصاية الساذجة على الأخلاق, والأكثر من كل ذلك ربما والأهم هو ا لخوف من الأدب, يقول أيضاً بيتار في معرض اتهاماته مطالباً بشراسة :(نحن لانطلب إليكم إلا شيئاً واحداً هو أن تطبقوا عليه القانون, فالطابعون يجب أن يقرؤوا, وعندما لايقرؤوا أولاً يكلفون غيرهم بالقراءة, فإنهم يطبعون تحت مسؤوليتهم الخاصة, فالطابعون ليسوا آلات, ولهم امتياز فهم يقسمون اليمين, وهم في وضع خاص, وهم مسؤولون وهم عندما يتركون الجريمة ثم يكونون كمن يترك العدو يمر,, ولتخففوا العقوبة كما تشاؤون عن بيلين, بل وكونوا رحيمين بمدير المجلة, وأما فلوبير المجرم الأساسي فهو الذي يجب أن تحتفظوا له بقسوتكم).‏

كيف يمكن لكتاب إذ ما وقع في أيدي الفتيات والنساء المتزوجات أن يقوي الخيال وينحدر هذا الاغواء حتى القلب وعندما يتحدث القلب إلى الحواس.. هذا ماحاول الاتهام شرحه وتأكيد حدوثه خلال المحاكمة, وتم الاعلان أنها رواية تحرض على الزناوأنها رواية ليست إخلاقية وتم اتهام فلوبير بأنه وضع كتاباً رديئاً, وبأنه قد أساء في روايته إلى الأخلاق العامة وإلى الدين, وشطح الاعداء بالتأويل والتحوير كل وفق منظوره الأخلاقي والديني..‏

أيضاً سنلمس مواقفاًمهمة لأميز أدباء عصره أمثال لامارتين الذي كلف سكرتيره بأن يذهب ليبلغ فلوبير اعجابه, وليعبر له عما أحس به من رضا عند قراءة الرواية, كما يبلغه أن يرى المؤلف الجديد الذي يفضل هذا الكتاب, وحين قابله قال له: (لقد قدمت إلي خير كتاب قرأته منذ عشرين عام) وحين سأله فلوبير قائلاً:( ولكن هل تفهم ياسيد دي لامارتين أن أحاكم- لأنني ألفت كتاباً كهذا- أمام محكمة البوليس الجزائي, للإساءة إلى الأخلاق العامة والدين?) أجابه لامارتين (إنني أعتقد ياولدي العزيز أنني كنت طوال حياة الرجل الذي فهم فهماً صحيحاً في مؤلفاته الأدبية ومؤلفاته الأخرى ماهي الأخلاق العامة والأخلاق الدينية وليس من الممكن أن توجد في فرنسا محكمة تدينه, وإنه لما يوجب بالغ الأسف أن يساء على هذا النحو فهم طبيعة مؤلفة, وأن يؤمر بمحاكمتك, ولكنه من غير الممكن -مراعاة لشرف وطننا وشرف عصرنا- وأن توجد محكمة تدينك).‏

محامي الدفاع يسوق مقاطع حسبة جريئة لكتاب سبقوا فلوبير أوجاوروه أوحاكاهم هو بجرأته ومن تلك المقاطع التي يستشهد بها محامي الدفاع أجزاء من الخطابات الفارسية لمونتسكيو ومن الاعترافات لجان جاك روسو.‏

لانستغرب أن يهدي فلوبير روايته بالصيغة التالية:( إلى ماري انطوانيت حول سينار عضو نقابة المحامين بباريس, والرئيس السابق للجمعية الوطنية, والوزير السابق للداخلية, أيها الصديق النابه: اسمح لي أن أسجل اسمك في صدر هذا الكتاب, وأن أتوج به الإهداء إذ أنني مدين لك- قبل أي إنسان آخر- بنشره, فبفضل دفاعك المجيد, اكتسب كتابي هذا في نظري الخاص من الأهمية فوق ماكنت أرجو وأتوقع..فتقبل هنا تحية اعترافي بالجميل.. تحية لن تبلغ فقط- مهما تكن- مستوى بلاغتك وإخلاصك, باريس في 12 آبريل سنة 1857).‏

تمترس فلوبير وراء موهبته وقلمه لتحفيظ بحقه كأديب يمتلك الرؤية التي يفترض أن يدفع الناس إلى رؤيتها حيث يمارس الأدب مهمته الحقيقية وتكون الثقافة قادرة على إغاثة زمنها وتبعث على حالة من التأثير العفوي على الناس لاحقاً بعد قرن تقريباً قال جان كوكتو في معرض حديث له عن الابداع هو الفن:( ليس علينا نحن أن نطبع الجمهور الذي لايعرف ماذا يريد, بل علينا أن نفرض على الجمهور أن يتبعنا إن رفض, كان لابد من استعمال الحيل, سراب, نجوم, ديكور وسائر المصابيح السحرية التي من شأنها أن تثير فضول الأولاد فتجعلهم يتقبلون المشهد, وعندئذ يهضمونه),هذا ماحدث تماماً مع رواية مدام بوفاري وزمنها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية