|
آراء (والذي هم لأماناتهم وعهدهم راعون) (المؤمنون), ((إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا).
تذكرت كل ذلك, في حادثة أو حادثتين أو ثلاث, من الجميل أن أرويها, ذلك ما حصل معي قبل أسبوع سحبت من البنك العربي في بيروت نحو ألفي دولار (مئة ألف ليرة) لأدفع بها آجار منزلي في بيروت, الذي أسكنه منذ ثلاثين سنة, وكلما حاولت العودة إلى الوطن, أكتشف أنه لا سقف بيت يأويني ولا أملك قبراً في مقبرة انتهي إليها في الختام, والسيرة ليست هنا على أي حال, كان يوم جمعة, وسأقابل المحامي مساء في السادسة أو السابعة لأدفع له الآجار, وقد اعتدت كل يوم جمعة على زيارة قبر زوجتي الشاعرة الراحلة أمل جراح في مقبرة الشهداء في بيروت, وكانت الأيام أول الشهر, لأنني أدفع لعامل في المقبرة كل أول شهر نحو ثلاثين دولاراً ليهتم بالقبر ونظافته ووضع ا لآس الأخضر عليه وتغييره كلما يبس. ركبت سيارتي واتجهت إلى المقبرة, وهي مقبرة تحتوي قبورها أجداث الشهداء, وما إن دخلت إليها حتى شعرت بالهيبة, تماماً, مثل كل مرة, اقتربت من قبر أمل وقرأت الفاتحة مراراً قبل أن أصرخ على يحيى عامل المقبرة, فجاء.. أخرجت جزداني الأسود وسحبت المبلغ المخصص له (30 دولاراً) أخذها خجلاً, وأسرع جالباً الماء وغسل رخام القبر مع أنه كان مغسولاً من الصباح. همست لأمل - كما في كل مرة - أحزاني ووحشتي وشوقي إليها.. ثم انحنيت على القبر وقبلت موقع رأسها ومضيت, عدت إلى بيروت ودخلت محطة بنزين لأغسل سيارتي, حيث يرتكن إلى جانبها مقهى صغير لشرب القهوة يشرف عليه شاب في العشرين من عمره, لأتناول القهوة حتى انتهاء غسل السيارة, قدم لي الشاب القهوة وعبوة ماء وما إن انتهى غسيل السيارة وجلبوها لي حتى ركبتها واتجهت نحو البيت, وما إن ابتعدت مسافة عشر دقائق حتى خطر ببالي جس صدري لأطمئن على الجزدان الذي فيه أجرة البيت, فلم أجده, طق عقلي, ورحت أسأل نفسي أين أضعت الجزدان, ظننت أنني أسقطته في المقبرة, فعدت أدراجي نحوها متوتراً إلى حد التعرق وارتفاع الحرارة في جسدي, قلت في نفسي إن المبلغ تعب شهرين, وجهد عرق وبذل وقت وتفكير, يعني أنه مال حلال.. فإذا كان مالاً حلالاً سأجده.. كانت عجقة السير قد شغلت الشوارع, فاحتمل وصولي إلى المقبرة من الوقت نحو ساعة.. أسرعت نحو قبر أمل مفتشاً حوله لعل الجزدان الأسود هناك.. ولكن لم أجد شيئاً, فناديت على يحيى جاء بسرعة وقلت له إنني فقدت جزداني, فراح المسكين يبحث مثلي في الزوايا, ثم رافقني حيث مشيت في الصباح ونحن نحملق في الأرض ولم نعثر على الجزدان. كان تفكيري قد شل تماماً.. فسألني يحيى أين ذهبت بعد تركك المقبرة? قلت إلى محطة بنزين وغسلت السيارة.. قال لي: اذهب هناك واسألهم لعل الجزدان قد سقط منك عندهم.. قلت له: الجزدان راح يايحيى, حتى لو وجدوه, فالمبلغ محرز, وسينكرون أنهم رأوه.. قال: ياأخي.. توكل على الله.. واذهب.. ركبت سيارتي ومضيت نحو المحطة وقد فقدت الأمل في العثور على المال, ودمعت عيناي.. فمن أين سأجلب مالاً آخر لتسديد أجرة البيت.. وصلت إلى المحطة وأنا أرجف, وترجلت من السيارة انظر إلى صاحب المحطة والعمال, وما أن وقعت نظراتي في عيني الرجل حتى وضع يده على صدره مطمئناً إياي. وكأن سطلاً من الماء غسل رأسي وجسمي. وعندما اقتربت منه, سألني إن كنت قد أضعت شيئاً, قلت له جزداناً وفيه ألفا دولار.. قال لي: اهدأ. جزدانك هنا.. ليس معي, ولكن عند صبي القهوة, ومشينا أمتاراً نحو المقهى الصغير, فوجدناه مغلقاً, تطلع الرجل من الزجاج فوجد الشاب نائماً في الداخل.. نقر له على الزجاج فصحا.. قال له: صاحب الأمانة جاء.. فتقدم منا وبيده الجزدان.. سأله الرجل: هل فتحته? أجاب: نعم.. وعندما وجدت فيه مالاً أخبرتكم, ثم نظر نحوي مبتسماً: يا أخي تركت الجزدان على الطاولة ولم تدفع لي ثمن القهوة.. وظننتك ستعود. ولما تأخرت, قلت للمعلم, مشيراً للرجل الذي رافقني وهو صاحب المحطة على ما يبدو عن الجزدان.. خذ ياأخي.. مالك حلال. سحبني صاحب المحطة من يدي إلى داخل مكتبه, وقال لي: ألا تعد المبلغ.. قلت لا.. قال: بلى.. عد المبلغ.. فعددته فإذا به ألفي دولار. سحبت ورقة من فئة العشرين وقلت: هل أستطيع أن أدفع هذا المبلغ البسيط للشاب.. قال: لا ياأخي.. هذه أمانة يجب أن ترد لك كاملة.. اذهب على بركة الله فمالك حلال.. حاولت إقناعه بدفع المبلغ فصرخ على الشاب صاحب المقهى أو أجيره وسأله: هل تريد حلواناً? قال: لا.. هذا مال الأخ والحمد لله أنه نسيه عندي ولم ينسه عند واحد ابن حرام ولكن ليدفع لي ثمن القهوة.. فسلمت على الجميع وعدت إلى بيتي, وتخلصت من المبلغ في المساء عندما سلمته للمحامي وأعطاني به وصلاً أنني دفعت أجرة البيت. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر, فالحادثة الثانية, أن صديقي الكاتب عادل أبو شنب كان في زيارتي في بيروت, وبعد عدة أيام, ولدى عودته سلمته ظرفاً فيه عشرة آلاف ليرة سورية ليسلمها إلى أخت لي بحاجة لها.. وكتبت على الظرف اسمها ورقم الهاتف, وقلت له تهتف لها فتجيء وتستلمه فقال على الرحب والسعة.. وما إن مضت نحو ثلاث ساعات اتصل عادل بي من دمشق, وقال: ياسين.. فقدت الظرف.. لا أعرف أين أسقطته, ربما في التكسي, أو في الطريق.. وأراد أن يطمئنني بأنه سيدفع المبلغ من جيبه طالباً رقم هاتف أختي.. فقلت له: أنسَ الموضوع ياعادل.. فداك.. قال مكرراً: لا.. لا.. أنا المسؤول, وأنا الذي ضيعت المال, وأعرف كما قلت لي إن أختك بحاجة له.. ولو يا أخي ياسين.. نحن لبعضنا. رفضت إعطاءه رقم هاتف أختي.. ولماذا عليّ أن أحمله مسؤولية إضاعة المبلغ وما ذنبه حتى يدفعه لي, وهو الذي أراد خدمتي وحمل المبلغ لإيصاله إلى صاحبته.. هو يكرر وأنا أرفض وألح عليه أن ينسى الموضوع.. ثم أغلقت الهاتف. بعد ساعتين على هذا الاتصال بيني وبين عادل اتصلت أختي من دمشق تشكرني على إرسال المبلغ, فوجئت.. واستغربت وسألتها: كيف وصلك? قالت: اتصل بي سائق تكسي, وقال لي إن راكباً كان معه وسقط هذا الظرف في السيارة دون أن يدري, وما أن أمسكت به وكان مكتوباً عليه (المحتوى عشرة آلاف ليرة) ورقم الهاتف واسمك حتى قررت الاتصال بك لأنني لا أعرف الراكب الذي تركني في شارع الروضة ولم أتركه أمام بيت معين, إنه أمانة لك عندي.. تعالي إلى الكراج لأسلمك إياه.. وعندما قلت له لا أعرف مكان الكراج. قال: اعطني العنوان وأنا أجيء به إليك.. وهكذا, ابن حلال ياأخي.. والله يعرف أنني بحاجة إلى المبلغ ولو ضاع فلن ترسله لي مرة ثانية.. وجاء الشوفير وسلمني الظرف وعندما حاولت أن اعطه حلواناً رفض.. وقال: لا أريد منك إلا أجرة التكسي.. أنا عندي أولاد يابنتي وقرشي حلال. أسرعت واتصلت بعادل ورويت القصة فقال لي: لا تدهش هناك أناس يريدون قرشهم بالحلال حتى ولو كان ثمن الخبز فقط. وذات يوم روى لي الكاتب الأردني خالد الساكت حكاية شبيهة أنه كان ينقل مبلغاً كبيراً من المال - نحو ستين ألف دينار أردني - وهي مرتبات الطلاب الذين يدرسون مبعوثين على حساب الدولة.. نزل من التكسي وذهب إلى منزله وقد ترك حيث كان في التكسي المغلف المليء بالدنانير.. واستدرك عندما وصل إلى الباب أنه نسي المال في التكسي, وصار يلطم وجهه بكفيه.. من سيصدق أنه أضاع المال.. وبدأ يتصور أيام السجن الذي سيرمى فيه.. لكن الله كان بالمرصاد, إذ عندما عثر سائق التكسي على المال عاد أدراجه يسأل عن أردني ساكن في هذه المنطقة, لأنه لم يكن يعرف في أي بناية دخل خالد.. ودلوه.. ودق باب خالد ليفتحه وأمامه سائق التكسي وبيده كيس المال.. ياسلام. الدنيا مليئة بالأشرار, مليئة بالطغاة والفاسدين.. الشر كبير وكثير والخير قليل, لكن في المحصلة النهائية (الخير هو الذي يغلب على الدوام). قالت عائشة رضي الله عنها: (مكارم الأخلاق عشر: صدق الحديث, وصدق البأس, وأداء الأمانة, وصلة الرحم, والمكافأة بالصنيع, وبذل المعروف, والتذمم للجار, والتذمم للصاحب وقرى الضيف ورأسهن الحياء). والتراث العربي مليء بقصص الأمانة ورد الأموال إلى أصحابها.. ولكنني رويت هذا المرة في »أوتار) ما حصل معي شخصياً.. وأدركت أن الدنيا لم تخل من أبناء الحلال.. وأن المال الحرام يحرق سارقه والمتعدي عليه في أولاده وأسرته ومن يحبهم, إن لم يكن اليوم فغداً, فأموال اليتامى هي من الأمانات, وآكل أموال اليتامى مأواه جهنم. يروى عن »المعراج) وصعود النبي محمد إلى السماء, قال (ص): تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا فلم يلقني ملك إلا ضاحكاً, مستبشراً, يقول خيراً ويدعو به, حتى لقيني ملك ودعا بمثل ما دعوا به, إلا أنه لم يضحك ولم أر له من البِشر ما رأيت من غيره, فقلت لجبريل: - من هذا ياجبريل? - هذا مالك خازن النار, أما أنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك لضحك إليك, فقلت لجبريل: - ألا تأمره أن يريني النار? - بلى. فقال: يامالك, أرِ محمداً النار. فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذنا ما أرى, فقلت لجبريل: مره فليردها إلى مكانها, فأمره, فقال لها: احْبي. فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه, فما شبهت رجوعها إلا بوقوع الظل. قال رسول الله (ص): ورأيت في النار رجالاً لهم مشافر كمشافر الإبل, في أيديهم قطع من نار كالحجارة, يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم, فقلت: - من هؤلاء ياجبريل? - هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلماً. |
|