|
ســـــاخرة مازلت أذكر «شعب شحاذوه مناضلون» في تلك الصحيفة المسائية الصادرة في دمشق واسمها «الوعي» وكان صاحبها د. بدري عبود، وأنا أمين تحريرها، وقد جرى ذلك صيف عام 1955 في شهر آب تحديداً. ولأبدأ الحكاية من أولها، فقد كنت في ضحى ذلك النهار من آب سنة 1955، ماراً في شارع النصر، قريباً على بعد خطوات من دار الإذاعة القديمة، هناك كانت المفاجأة التي لا يمكن أن يتصورها أو يتوقعها أحد، وكان أمامي ذلك الرجل الذي عرفه بعض شوارع دمشق متسولاً. يرتجل الزجل وبيده عصفور كان رجلاً طوالاً، طويل الوجه، خرنوبي الشعر، أزرق العينين بلا شوارب، وياطول ما رأيته، في تلك الثياب شبه البالية، ممسكاً بيده عصفوراً من البلاستيك يرتجل الزجل، في أي أمر يواجهه: رجل أو امرأة ممن يلفت النظر، دكان أعجبه شكل صاحبها أو لم يعجبه، عربة يد أو سيارة صغيرة أو كبيرة رآها قرب الرصيف يقول ما خطر له وهو يخاطب العصفور حتى صار اسمه «عصفوري ياعصفور». «وأنت يا أبو البنّي» في تلك الأيام صادفني وجهاً لوجه قرب جامعة دمشق، وأنا في طريقي إليهامرتدياً، بزة بنية فقال: وأنت يا أبو البنّي شايف راح تهرب مني ما بدي منك غير(فرنك) ويا عصفوري يا عصفور يا سكين بدنا رجال حين رأيت هذا الرجل الذي لا أعرف اسمه الحقيقي، في ذلك الصيف، فإنه لم يكن يحمل عصفوره البلاستيكي، ذاك أنه يمسك سكيناً خشبية صغيرة، يلوح بها في الهواء وهو يردد: ياسكين بدنا رجال بدنا مال وبدنا نضال بدنا نساعد مراكش حتى تاخد استقلال يا سكين ويا سكين المستجدي يعرف مراكش أيعقل هذا؟ أيعقل أن هذا المتسكع الجوال في أسواق المدينة، يستجدي (الفرنك) على اطلاع بما يحدث في أقصى نقطة في الوطن العربي على شواطئ المحيط الأطلسي وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط: الرباط والدار البيضاء، وتطوان والمدن الأخرى في مراكش التي دعيت فيما بعد المملكة المغربية! يومذاك لم تكن هناك قنوات فضائية، والإذاعات العربية والعالمية تكاد لا تسمع إلا بصعوبة ومثل ما يحدث في ذلك القطر العربي النائي، يمكن أن يعرف عن طريق الصحف المحلية فقط، فهل أن «عصفوري يا عصفور» يقرأ؟ ويقرأ الصحف أيضاً؟! ماذا كان في مراكش؟ ترى... مالذي كان يجري في تلك الديار التي انحدر إليها أهل الأندلس بعد ذلك العام المشؤوم 1492 إثر سقوط غرناطة، على أيدي فرديناند وايزابيل؟ كان ذلك في 20 آب سنة 1955، بعدما أعد زعماء المقاومة في مراكش المحتلة من قبل فرنسا، الزحف على المدن الصغيرة الواقعة في الأطلسي الأوسط، وعجزت القوات الفرنسية عن السيطرة على الموقف، واشتركت المرأة المراكشية لأول مرة في هذا الكفاح، ما ساعد على إلهاب حماسة الجماهير. مراكش بعد ثلاثة أشهر وبعيداً عن «ياعصفوري يا عصفور» وتلويحاته بسكينه الخشبي وهو ينادي طالباً دعم ذلك البلد العربي المناضل في سبيل الاستقلال وجلاء الجيوش الأجنبية في ذلك النهار الحار من آب، وبعد ثلاثة أشهر من تلك الحركة المباركة، أي في شهر تشرين الثاني، من السنة ذاتها1955 اعترفت فرنسا باستقلال مراكش. ويهجو مدير الإذاعة هذا الرجل ذاته (ياعصفوري) قبل سنتين من ذلك التاريخ، نفحه بعض المواطنين في مديرية الهاتف الآلي في أول شارع النصر بدمشق، بضع ليرات سورية، كي يوظف أزجاله في هجاء مدير الإذاعة في تلك السنة1953، وفي ذاكرتي أسماؤهم، وبعضهم معروف مثل الكاتب الراحل حسيب كيالي الذي كان يعمل في تلك المديرية لماذا؟ لأسباب سياسية. وكل صباح كان مدير الإذاعة(أ.ع) يجد عند باب الإذاعة(ياعصفوري). وهو يستقبله في زجل هجائي جديد، وإذ ضاق ذرعاً بذلك فإنه اتصل بمدير الشرطة وشكا إليه هذا الأمر، وهكذا أرسل المدير من يحمل هذا الرجل، ويلقيه بعيداً، قرب «أبو الشامات» غير بعيد عن الحدود العراقية. العجب العجاب أن مدير الإذاعة وجد صباح اليوم التالي «ياعصفوري» في انتظاره أمام باب الإذاعة. يا عصفوري في باب البريد وذات يوم كنت في «باب البريد» عند نهاية سوق الحميدية، فصادفت «ياعصفوري» يركض مهرولاً بقبقابه التاريخي، نحو مطعم هناك معروف باسم «أبو حرب» يقدم الحلويات المختلفة التي تدعى في الشام «بغاجة» إضافة إلى صرر«الأوزي». دخل «ياعصفوري» وفي يده عصفوره البلاستيكي نظر إليه في حنان ورقة، وقال: يا عصفوري يللي مالك ذنب - بدك تاكل من عند أبو حرب ومد يده فتناول صرة «أوزي» ومضى وهو يلتهمها بتلذذ. |
|