|
ثقافة من خلال مقاومة ومقارعة الاحتلال عبر معارك وثورات وانتفاضات دامية سقى بدمه خلالها تراب وطنه يقيناً منه أن الصمود والكبرياء هما السبيل لدحر القهر والظلم واستعادة الاستقلال بالتضحية. إنها ملحمة الجلاء تلك التي نسجتها آلاف الصور والحكايات ولدرجة يصعب فيها إحصاء أعداد وأسماء الشهداء مثلما من الصعب أيضاً إحصاء أعداد الشعراء ومن مختلف أنحاء الوطن العربي سواء من كانوا من أبناء دمشق حيث النزيف نزيفهم أو الذين سكنتهم الوطنية فتلمسوا مقدار جسارة الاحتلال وأطماعه الشرهه، ما دفعهم للصراخ بحناجر فجرت قصائد الغضب المسكون بشظايا من وجع المعاني. سنكتفي فقط بمثالين أحدهما ما قاله شاعر سوري والآخر شاعر مصري لنرى كم في قوافي قصائدهم دفقاً من ثورة الحرف والأماني. خير الدين الزركلي شاعر سوري ولد سنة 1893 وترعرع في دمشق التي تعلم في مدارسها وأخذ عن معلميها الكثير ما جعله مولعاً بآدابها ملتهب العاطفة تجاهها لدرجة أنه لقب (شاعر الشام)، عندما تخرج من المدرسة الهاشمية أصبح مدرساً فيها فأصدر مجلة الأصمعي التي صادرتها الحكومة العثمانية لينتقل بعدها إلى بيروت لدراسة الآداب الفرنسية. بعد الحرب العالمية الأولى أصدر في دمشق جريدة يومية أسماها (لسان العرب) إلا أنها أقفلت ثم شارك في إصدار جريدة (المفيد) التي كتب فيها الكثير من المقالات والقصائد التي تتغنى بأمجاد الوطن وتتعلق بآمال الحرية والاستقلال وهكذا إلى أن دخل الفرنسيون دمشق وأطاحوا بحكومة الملك فيصل وقضوا على أماني سورية بالاستقلال بعد أن استشهد الكثير من شبابها في معركة ميسلون وتم إعلان الانتداب الفرنسي. غادر (الزركلي) إلى عمان وبعد مغادرته قرر المجلس العسكري التابع للجيش الفرنسي الحكم عليه غيابياً بالإعدام مع مصادرة أملاكه لأنه جاهر في جريدة (المفيد) بالعداء للفرنسيين ونعتهم بالغدر والخيانة، ودعا أهل وطنه إلى مقاومتهم وقد أشار إلى ذلك في إحدى قصائده التي قال فيها حين أحرق الفرنسيون دمشق: الأهل أهلي والديار دياري وشعار وادي النيربين شعاري إن الدم المهراق في جنباتها لدمي وإن شفارها لشفاري النار محدقة بجلق بعدما تركت «حماة» على شفار هار ويأخذه الحنين وأنى له أن يعود والموت سينتزع منه قدرته على مواجهة العدوان بالكلمة، نعم الكلمة التي مزقت أضلاعه حنيناً إلى أهله وبلده بكل ما فيها من وجع لولا الحنين لما بكيت لياليا كانت دمشق بها تجود وتمنع لولا الحنين لما بكيت أحبة كانت تضمهم دمشق وتجمع لولا الحنين لما غضبت لأمة في الشام ذراف عليها الأدمع كم كان يؤلمه أن يرى البلاد تقسم وتتجزأ وبعض العرب يلتزمون الصمت ولا يحركون ساكناً ولو بكلمة احتجاج أو ثورة تشجب ما يحصل في دمشق ما يدفعه للصراخ مستنكراً ما يحصل قائلاً: فيم الونى وديار العرب تقتسم أين العهود التي لم ترع والذمم ؟ هل صح ما قيل من وعد ومن عدة ؟ وقد رأيت حقوق العرب تهتضم؟ ننتقل إلى شاعر الوطنية أحمد شوقي المصري الذي عاش في عهد هزته الأحداث والمؤامرات ليصرخ في كل مرة مستنهضاً الهمم وشاجباً الصمت والخنوع ولتكون صرخته الأقوى ضد الفرنسيين الذين هاجموا دمشق فقصفوها ليقصف بكلماته في قصيدته (نكبة دمشق) كل آمالهم وعدوانهم يقول: بني سورية اطرحوا الأماني وألقوا عنكم الأحلام ألقوا وللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق ويتساءل في هذه القصيدة بهلع عن مصير جنات دمشق ويتعجب كيف أن فرنسا وهي مولد ثورة الحرية تغفل عن معانيها وتقف هذا الموقف من الثوار دم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نور وحق بلاد مات فتيتها لتحيا وزالوا دون قومهم ليبقوا وحررت الشعوب على قناها فكيف على قناها تسترق؟ وعندما دمر الفرنسيون دمشق إبان الثورة السورية نظم شوقي قصيدته التي ذكرها وتسابقت الصحف إلى نشرها حتى إن بعضها سارع لشراء امتياز السبق في النشر لقد شاعت الأخبار كالبرق وقيل تعدى المستعمر فهدم مباني ذات قيمة تاريخية وحضارة لها امتدادها رباع الخلد ويحك مادهاها أحق أنها درست أحق؟ بليل للقذائف والمنايا وراء سمائه خطف وصعق إذا عصف الحديد أحمر أفق على جنباته وأسود أفق قال هذا بعد أن سمع أن قصف دمشق دام (56) ساعة، كلما نزلت خلالها كرة من كرات الديناميت، أحمر أفق من النار وأسود سقف من الدخان. أليس من حق الشاعر بعد هذا أن يصف قسوة الطاغية (سراي) الذي رمى فرنسا، بل مرغ سمعتها في الوحل، ذلك الطاغية المجرم الأحمق الذي قال عن أهل دمشق، أهل الحق إنهم عصابة متمردة، بينما ليس من حقه وهو صاحب القلب الذي لارحمة فيه إلا الانزواء بعيداً عن كل ما يمت إلى الحقوق والعدالة بصلة. وللمستعمرين وإن ألانوا قلوب كالحجارة لاترق رماك بطيشه ورمى فرنسا أخو خرب به صلف وحمق إذا ما جاءه طلاب حق يقول عصابة خرجوا وتثقوا إنها دمشق المدينة التي أحبها الشاعر وتغنى بجمال غوطتها وروعة جمالها... المدينة التي زادت من آلامه التي ذرفها فأسكرت بردى لطالما وصفه أروع الوصف. نعم، إنها دمشق التي تحول إلى مخاطبتها بعد أن وجد أن مخاطبة العاقل لاتجدي ، فلا أحد يسمع ولاأحد ينقذ الحضارة التي هي تاج الحضارة وقبلة الوافدين إلى أحضانها. صلاح الدين تاجك لم يجمل ولم يوسم بأزين منه فرق وكل حضارة في الأرض طالت لها من سرحك العلوي عرق بنيت الدولة الكبرى وملكاً غبار وحضارتيه لايشق إنهم الأحرار الذين واكبوا خلال الاحتلال الفرنسي لسورية، الأحداث النضالية ورصدوا ثبات ونضال وثورة الشعب المصمم على نيل وتحقيق الاستقلال. كيف لا؟ والشاعر فرد في أمته ولسان حال وطنه، بل القادر على مجابهة الظلم والعدوان بمداد إحساسه، ينثره برداً وسلاماً على قومه، ورصاصاً حارقاً على عدوه إنه العدو الذي يتجدد في كل مكان وزمان بأقنعة مختلفة.. لا يمزقها إلا الصمود والثبات والوحدة... والمقاومة وبكل ما يحمل الإنسان العربي الحر من عشق وتمسك بأرض وطنه. |
|