|
دين ودنيا ولكن استقلال سورية مدين لسلسة طويلة من رجال الكفاح لا يجوز أن ننساهم حين تطل علينا شمس الحرية في السابع عشر من نيسان كل عام، وعلينا أن نمنح هؤلاء الرجال مكانهم الطبيعي في ذاكرة الأيام، وفيهم أحرار ثائرون وأنبياء مكرمون وصحابة صادقون وعساكر مناضلون. والحديث عن استقلال سورية ليس إلا سطراً واحداً من رجاء المشروع القومي الذي يحلم به كل عربي طموح. قبل رسول الله كان الحديث عن استقلال العرب ووحدتهم محض أوهام شاردة لا نصيب لها من الواقع، وربما كانت المحاولة الوحيدة التي سبقت الإسلام لتحقيق هذه الوحدة هي مشروع زنوبيا. زنوبيا بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع العربية الآرامية، كانت بطل استقلال رهيب أعلنت تحرر الإرادة العربية السورية في قلب الصحراء ثم قادت رجالها ببسالة فريدة إلى عواصم بلاد الشام دمشق وصيدا وجرش والقدس، ولم يرض طموحها تجربة الأنباط في البتراء وأصرت على الحلم العربي القومي، وتوجهت صوب مصر وأعلنت قيام الأمة العربية التي ظلت خلال التاريخ رهن إرادة الغرباء . كان إعلان قيام الدولة العربية من الفرات إلى النيل على يد زنوبيا كارثة حقيقية لأطماع الرومان في أرض العرب وكان إعلاناً لأفول العهد الاستعماري البغيض، ولم يتأخر رد أوروبا وتحرك الامبراطور أورليان بنفسه من روما صوب تدمر ليحطم أحلام الزباء ويعلن نهاية الأحلام العربية في قيام وطنهم القومي وليبدأ إعلان الوجه القبيح للمشروع الاستعماري وفق فلسفة لئيمة خلاصتها أن العرب غير جاهزين لحكم أنفسهم ولا بد أن تكون عليهم وصاية من أوروبا، وهي المواجع التي عبر عنها بدر شاكر السياب بقوله: هم يطلبون على العراق وصاية عجباً وهل أبناؤه أيتام باختصار ظل المشروع القومي الذي أطلقته زنوبيا مجرد حلم يعصف في الخيال العربي لا نصيب له على أرض الواقع، وعاد الناس لقبول الفكرة القائلة إن الله خلق الناس أسياداً وعبيداً وإن مكان العرب في المشهد العالمي هو للأسف في الجانب الثاني من الصورة، وتعزز هذا الوهم، ورضي ملوك العرب من مناذرة وغساسنة بمكانهم في خدمة الكبار من رومان وفرس، وفي سبيل رضاهم لم يتردد شرحبيل بن عمرو الغساني من البطش بالحارث بن عمير الأزدي سفير رسول الله الوافد إلى هرقل برسالة من النبي الكريم وهي أول خطوة في مشروع الاستقلال العربي وقد تولى وأده للأسف ملك غساني عربي كان يفترض فيه أن يستجيب للآمال التحررية ويعمل على إطلاقها ولكنه اختار مكانه الطبيعي في خدمة الاستعمار. كان مقتل الحارث بن عمير حدثاً فاصلاً في تاريخ استقلال سورية وشعر النبي الكريم بالمرارة تعصف فؤاده فكيف يمكن لملك عربي أن يبيع نفسه لأباطرة الروم من أجل متاع من الدنيا قليل. قرر النبي الكريم أن يبدأ استقلال سورية، وكانت سورية وحدها من بين الأقطار العربية خارج جزيرة العرب التي تحرك النبي الكريم صوبها بنفسه في مشروع استقلال وطني كبير. كانت تطوف بخياله ذكريات كثيرة عن سورية، حين زارها في شرخ الشباب تاجراً مع عمه أبي طالب، الأسماء عربية واللباس عربي والطعام عربي والتقاليد والعادات عربية والشهامة والمروءة عربية كل شيء هنا عربي إلا الحاكم فهو رومي بيزنطي!! لم يقدم النبي نفسه للعالم كبطل تحرير ولا طرح نفسه فرداً من الثوار ضد الظابطية الرومية، لقد طرح نفسه ببساطة على أنه رسول الله ولكن النبوة والرسالة ليست إلا كفاحاً في سبيل الله والمستضعفين في الأرض، وليست إرادة الاستقلال إلا مظهراً من مظاهر الانتصار للمستضعفين في الأرض. كان يوم تبوك أول مبادرة حقيقية يتطلع فيها النبي الكريم خارج جزيرة العرب وكانت بالضبط صوب الشام الشريف التي بشر النبي الكريم بمكانها في العالم في قلوب المؤمنين، فسطاط المؤمنين يوم الملحمة الكبرى. تبوك ومؤتة وسرية البلقاء واليرموك وأجنادين وحطين وعين جالوت هي أيام كبيرة في تاريخ استقلال الشام ومن حقها أن تذكر تماماً مع يوم ميسلون ويوم البرلمان ويوم الجلاء، خرج بنفسه صوب الشام وأعلن بوضوح أنه ماض لإنهاء الحكم البيزنطي والرومي وقال بصراحة وأمل: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وقاد ثلاثين ألفاً من الرجال البواسل من أجل إخراج الروم من سورية، وهو حلم كبير لم يتمكن من تحقيقه عامذاك بنفسه، ولكنه عقد لواء التحرير لأسامة بن زيد وأوصى على فراش الموت أن يمضي بعث أسامة وسارت خيول أسامة بعد رحيله حتى وصلت البلقاء تمهيداً لجيش الفتح الأعظم الذي وصل بعد عامين اثنين تحت راية خالد بن الوليد وأبي عبيدة وخاض معركة اليرموك الفاصلة في سبيل التحرير والحرية، ووقف هرقل محزوناً على أطلال الشام وقال: وداعاً يا سورية وداعاً لا لقاء بعده، وهكذا كان. عند قبور قادة مؤتة تبدأ حكاية استقلال بلاد الشام زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة أول طلائع التحرير الذين تحركوا من أرض الحجاز في سبيل الله والمستضعفين في الأرض ومع أن سيوفهم لم تفلح في إخراج المحتل الرومي من بلاد الشام ولكنها كانت الجولة الأولى للانتصار الكبير الذي جاء به يوم اليرموك على يد خالد. وباختصار فإن من حقنا أن نقرأ في تاريخ سورية خمس مراحل تحرير قادت إلى يوم الجلاء الكبير، وكلها كانت ضد المستعمر الأوروبي باستثناء الرابعة التي كانت ضد المغول، الأولى: مرحلة زنوبيا وكفاحها عام 274 للميلاد، والثانية الفتح الإسلامي بقيادة الصحابة الأحرار ضد الروم والفرس عام 635 للميلاد والثالثة كفاح نور الدين وصلاح الدين عام 1188 ميلادية الذي حرر بلاد الشام من أطماع الفرنجة، والرابعة في كفاح قطز والظاهر بيبرس عام 1261 في تحرير الشام من يد المغول، والخامسة في كفاح العرب لتحرير أرضهم من الاستعمار الأوروبي، وهو ما اكتمل بإعلان الجلاء في 17/4/1946 وهي فصول متعاقبة ترسم حقيقة واحدة تشترك فيها إرادات عربية من منابر متعددة في الدين والسياسة والثورة لبناء حقيقة واحدة وهي الحرية والاستقلال. لا شك في أن يوسف العظمة وحسن الخراط وسلطان باشا الأطرش ومحمد الأشمر وإبراهيم هنانو وصالح العلي كانوا أبطال الاستقلال السوري، ولكن كفاح هؤلاء يبقى جزءاً من الصورة الكاملة لحكاية الاستقلال التي لا تكتمل إلا بكفاح الجيل الأول من أصحاب النبي الكريم الذين أشرقت بهم الأرض واكتملت بهم صورة الوطن المعذب الذي رزح تحت الاحتلال اليوناني والفارسي والروماني والبيزنطي نحو ألف وثلاثمائة عام. الاستقلال يوم سورية الكبير، ولكنه ليس إلا مرحلة في الحلم العربي والإسلامي الأول الذي أطلقه رسول الله قبل أربعة عشر قرناً وكانت رسالته تتلخص في كلمتين اثنتين: تحرير أرض العرب سلماً أو حرباً ومن ثم الانطلاق إلى حمل رسالة الهدى للعالمين. ولكن ألا يبدو غريباً أن تتحدث هنا عن المشروع القومي في هذه الزاوية الدينية؟ شخصياً لا أشعر أن الخطاب الوطني يبتعد عن الخطاب الديني ومع أن الأنبياء لم يقدموا أنفسهم للعالم على أنهم ثوار وطنيون أو مناضلون أحرار، ولم يقدموا أنفسهم للناس على أنهم قادة حرب تحرير ضد الاستعمار والامبريالية، لقد قدموا أنفسهم للعالم على أنهم رجال الله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويجاهدون في سبيل الله، ولكنك ستشعر بالذهول حين تدرك أن هذه المصطلحات الدينية المقدسة ليست إلا الرحم الموضوعية التي دلفت منها هذه المعاني الوطنية والاجتماعية، والكفاح الاجتماعي في بناء الحياة ليس إلا صورة من صور نضال الأنبياء. الاستقلال في سورية يوم كبير ومجيد، وهو ملك السوريين جميعاً من عين ديوار إلى عين التينة ومن اسكندرون إلى صلخد، ولكن مكان يوم الاستقلال في الزمان والمكان أكبر من هذا بكثير، ومن حقنا أن نتطلع إلى الاستقلال الذي بدأ بزنوبيا واستنار بمحمد وأشرق بخالد وأبي عبيدة والتهب بكفاح صلاح الدين وتوثب بقفزة قطز واكتمل بكفاح أبطال الثورة السورية الكبرى، ولكن الاستقلال أيضاً لا ينبغي أن يقف عند حدود سايكس بيكو بل من العقل والدين أن يمتد من عربستان إلى جبال أطلس إلى نواكشوط وأن يصل ما بين كيليكية واكسوم والقرن الأفريقي في كل ارض يسكن فيها العرب. |
|