|
ثقافة سأشاغلُ الغروبَ.. علّه يُبطّئ قدومَ الليل قليلاً ليغمر الماءُ السّرةَ ويصلُ.. النهدين بسلام هل جربت أن تقرأ البحر على أجساد زائريه، هل عرفت امتداده ولا انتهاءه، هل شهدت نرجسيته وغيرته، هل عرفته سلساً، مرناً، جموحاً، معطاء، قادراً، مُنتقماً ؟؟! إذاً عليك أن تقرأ كتاب البحر كاملاً، لتقول: البحر، تشكيلٌ عن شاعرٍ مجنون.
لم يكفّ البحرُ عن تسجيل حضوره في الأدب، وجاء ذلك بوضعياتٍ مختلفة بين السلبي والإيجابي، كما استخدم كرمز وكمعنى، فهو - على ما يرى الشاعر أمير سماوي - القوة الطبيعية التي تحتاج لبطولةٍ بشرية من أجل تجاوزها، كما هو الاتساع والحرية والطموح واللانهاية الواقعية، وهو أيضاً المواجه لعذابات الإنسان البري، وهو كذلك الحصار، هذا البحر الذي يُحاوره سماوي في ذات قصيدة، فيقول: كلّ يومٍ اسأل البحر: لماذا الموج يُهديني رياحاً وصليلاً لُجبا أسأل البحر: ولكن الصدى إغفاءة حُبلى تلاشى على نواحيها سراج منهك الضوء حُبا أسأل البحر: لماذا صار غريد الطقوس الخضر مُصفراً وصار اللحن في أغنيتي مُغتربا ذلك ما ساءل به أمير سماوي البحر، وفي حواره مع البحر، حيث لم يجد غير قصيدة الوزن «البحورية» حتى يُسائل فيه إيقاع أمواجه، سماوي المعروف عنه أنه من أبرز شعراء قصيدة النثر السورية في قوله الشعري..! ما أريد قوله، إن هذا المدى الأزرق، يبدو - وإلى حدّ كبير - قد غاب عن مفردات القصيدة المُعاصرة، وأقصد بذلك قصيدة النثر تحديداً، حتى عند الشعراء الذين يُجارون البحر، ولهم مع موجه حكاية عند كل صُبحٍ ومساء.! هذا البحر الذي في أحد وجوهه، هو العنف المُنظم بترتيب، يتكرر أبداً، فهو وإن كان ثمة الكثير من الأدباء استخدموا بعض ما يوحي بمفردته بتعدد دلالاتها، غير أن انعكاس ذلك في قصيدة النثر بقي نادراً، ما يُلفت غيابها، لصالح مفردات البر المُجاور، وإذا كُنا نتفهم الأمر عند الشعراء في المناطق الداخلية، غير أن ثمة مايُثير الانتباه لدى شعراء طرطوس وجبلة واللاذقية، وحتى لواء اسكندرون، وهذا ما تنبهت له - إلى حدٍّ ما - الرواية، عندما كرّس أديب كحنا مينة على سبيل المثال جلّ ما كتبه في الرواية عن البحر، بل إن أكثر ما عُرف به مينة، كان برواياته البحرية، وتحديداً ثلاثيته «ثلاثية بحّار» أي الأجزاء: «حكاية بحّار، الدقل، والمرفأ البعيد «وهنا نذكر أن مينة، لم يكتف بهذه الرواية البحرية، بل كتب كذلك: الياطر، نهاية رجل شجاع، الشراع والعاصفة، حكاية بحار، البحر والسفينة وهي، وغيرها، وهو الأمر الذي لم نجده لدى الشعراء، وإن كُنّا وجدنا معادلاً للسرد الروائي البحري لدى مينة، عند أكثر من فنان تشكيلي، حيث كان إغواء هذا الأزرق مع بياض اللوحة لدى الكثير من الفنانين التشكيليين: نزار صابور، بولس سركو، سموقان، و.. غيرهم. أزرق هذا المدى البحري، بقي إلى حدّ كبير لم يؤثر في القول الشعري لشعراء الشواطئ إذ بقي جلهم أشبه بالجبال التي انتموا إليها، أي بمعنى آخر احتووا بعض صلابة الهضاب والسهوب، ومن ثمّ بقوا ذلك التشكيل الخارجي للبحر. البحر كائنٌ كوني مُثقل بمزاجية، مُترفٌ بتمرده، فريد بما يحمله من تناقضات، انظر إليه تراه سمحاً شفافاً، وفي أقل من خفقة يطغى ويثور، تأمله تلقاه ضاحكاً بغبطته، وبمثل الخطف ينقل إليك شجنه، راقب البحر عاشقاً، مجّد قامته مراوداً طرطوس عن سكينتها، أبحث عن سر قدرته على منح الفيض، فتش عن كبريائه، وهو يسحب الشمس إلى أقصى إقامته، وفتش عن تواضعه، وهو يفتح مراياه للقمر. أبناء البحر الشعراء، لم يحضروا رذاذه الذي يرشق وجهوهم عند الصخور - وحتى لا نظلم إلا قليلا - ولم يستطع البحر أن يشدّهم إلا في بعض قصائد اللهجة المحكية، أو موزونة، كما شدتهم طبيعة القرية، التي كانت الحافز الأول على كتابة الشعر وتوزعت مفرداتها عل طول مجموعاتهم الشعرية. فمن مجموعة كاملة للشاعرة سوسن الحجة، عنونتها بـ «عُشبة للأزرق» التي توحي بمدى بحري، لم نتحصّل سوى على هذا القصيدة التي تجر بالبحر صوب جبال اليابسة: أمدُّ ذراعي للبحر أمشي على زرقته أغوص في أعماقه دون أن أبتل وليلً أغفو على اليابسة سمكة لها عمق البحار وثمة مجموعة أخرى هي «أبجدية الأزرق» للشاعرة صبا قاسم، التي توسلت مدى بحرياً صريحاً، ومع ذلك بقي ذلك الاقتصاد المُلتبس والمُرتبك للأزرق البحري، رغم اشتقاق العنوان من كل هذه المُجاورات البحرية..! |
|