|
مجتمع وهو جزء من حقيقة مرة لظاهرة الانتحار التي تكاثرت في السنوات الأخيرة بشكل لافت للانتباه حتى تحولت لظاهرة اجتماعية تستحق دق ناقوس الخطر قبل تحولها إلى مرض خبيث يستحيل معالجته.. ومن المؤسف جداً أن يكون وقود هذه الظاهرة شباب في ربيع العمر لم يجدوا حضناً دافئاً يرتمون إليه في لحظة يأس, فكان الانتحار ملاذهم الوحيد انتقاماً من أنفسهم ومجتمعهم وهروباً نحو الضعف والعجز الذي لا يحل المشكلة بل يفاقمها ويزيدها تعقيداً وذلك في ظل غياب واضح للرادع الديني والقانوني والأسري والتربوي. أرقام تستحق الوقوف طويلاً..?! الأرقام المنشورة التي حصلنا عليها من مشفيي دمشق (المجتهد) والمواساة رغم أنها مرتفعة نسبياً إلا أنها لا تعبر عن حجم المأساة الحقيقي, كونها احصائية عن اثنين من المشافي العامة في دمشق.. ولعلنا ندرك مدى خطورة هذه الظاهرة (ظاهرة الانتحار) إذا ضربنا هذه الأرقام بعدد مشافي القطر العامة والخاصة, مع العلم أننا علمنا أن هذه الأرقام قليلة أمام الأرقام الموجودة في المشافي الخاصة التي يلجأ إليها الكثير خوفاً من الفضيحة. فقد بينت الاحصائية التي حصلنا عليها من مشفى المجتهد أن عدد المقدمين على الانتحار لعام 2005 بلغ555 شخصاً منهم 221 من الذكور و364 من الإناث وتتراوح فئاتهم العمرية بين 10 أعوام إلى 30 عاماً حيث لوحظ أن الفئة العمرية التي كانت أكثر عدداً هم بين 20-30 عاماً. أما في عام 2006 فقد بلغ عدد المقدمين على الانتحار 631 شخصاً بينهم 210 من الذكور و421 من الإناث ولوحظ أن أكثرهم عدداً من الفئة العمرية من 10-20 حيث بلغ عددهم 311 شخصاً. أما في عام 2007 فقد كان إجمالي عدد حالات الانتحار 509 معظهم من الاناث حيث بلغ عدد المقدمات على الانتحار 346 حالة وعدد المقدمين على الانتحار من الذكور 163 حالة. أما في مشفى المواساة فلم نستطع الحصول إلا على إحصائية عام 2007 بسبب صعوبة الوصول إلى اضابير المرضى كونها غير مفروزة وغير مؤرشفة بشكل دقيق وكون أعداد المرضى التي تدخل المشفى من مختلف الحالات بالآلاف سنوياً وهو ما استلزم جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً للحصول علىها, حيث بينت هذه الاحصائية أن عدد حالات الانتحار في عام 2007 هو 204 حالات فقط أغلبهم من الاناث حيث بلغت 132 حالة و72 من الذكور. أحرقت نفسها بعد مشاجرة مع زوجها.. بالمصادفة وأثناء وجودنا في مشفى المواساة علمنا بوجود حالة انتحار لسيدة حاولت إنهاء حياتها بإحراق نفسها بالمازوت احتجاجاً على معاملة زوجها السيئة لها, إلا أن العناية الإلهية قد أبقتها على قيد الحياة, رغم نسبة الحروق الكبيرة في جسمها التي وصلت إلى أكثر من 95%. ورغم أن المشهد كان مأساوياً جداً, إلا أننا استطعنا إجراء حوار سريع ومختصر معها, حيث قالت السيدة (ش.س) من محافظة حلب والتي تبلغ من العمر 30 عاماً وأم لخمسة أولاد وتعمل خادمة: إنه بعد مشاجرة مع زوجها بسبب الوضع المادي السيئ قامت بسكب مادة المازوت على جسدها وإشعال نفسها وعلى الأثر قام زوجها بإطفائها وإسعافها إلى المشفى.. وحالة السيدة (ش.س) ليست الوحيدة التي حصلت مؤخراً ففي الأمس القريب حدثت عدة محاولات انتحار حيث حاول أحد الطلاب الجامعيين الانتحار بالتهديد بالقفز عن سطح أحد مباني المدينة الجامعية بدمشق, كما أقدم شاب آخر في أحد المحافظات الشمالية على قتل نفسه شنقاً بسبب أوضاعه الاقتصادية السيئة وهناك الكثير الكثير.. دور وزارة الصحة.. عن دور وزارة الصحة قال الدكتور سامر خضر رئيس قسم الاسعاف واختصاصي معالجة مرض السموم في مشفى المجتهد: إن المشفى يقدم جهوداً جبارة وعناية فائقة للمرضى المقدمين على الانتحار والذين يصل عددهم أحياناً إلى العشرات شهرياً من لحظة دخولهم إلى المشفى إلى لحظة الخروج منها, وقال الدكتور خضر إن الوزارة لا تبخل بتقديم أي دواء أو ترياق لأي مريض مهما كان ثمنه عالياً مع العلم أن ثمن الترياقات المضادة يبلغ أحياناً آلاف الدولارات. وأوضح خضر أن أغلب حالات الانتحار ناتجة عن تناول الكاويات الدوائية والمشتقات النفطية والمنظفات والمبيدات الحشرية وأكثرها ناتجة عن الإدمان على المسكنات المركزية المشابهة للأفيون التي تباع في الصيدليات بشكل مخالف دون وصفة طبية. وأشار خضر أن نسبة النجاة بين المقدمين على الانتحار بين (95-100%) كما أن أعمار المنتحرين بين (13-25) سنة والنسبة الأكبر تكون من نصيب الفتيات. ونوه الدكتور خضر إلى أهمية المعالجة النفسية للمريض بعد خروجه من المشفى. من جهته قال الدكتور مصطفى حبش رئيس قسم الاسعاف بمشفى المواساة: إن حالات الانتحار التي ترد إلى مشفى المواساة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: يقدم على الانتحار ولا يقصد قتل نفسه وهذا هو القسم الأكبر من محاولات الانتحار ويدخل تحت عنوان (الهستيريا). القسم الثاني: هو الذي يقصد إيذاء نفسه وإنهاء حياته وهؤلاء على الأغلب لديهم اضطرابات نفسية تصل إلى مرحلة الفصام (شيزوفوينيا) يقدمون على الانتحار بواسطة طلقات نارية أو قطع الشرايين أو تناول مواد دوائية خطيرة جداً. أما القسم الثالث: فهو الذي لا يقصد قتل نفسه ولكنه يموت. أضاف الدكتور حبش إن أهم ما يقوم به المشفى لحظة استقباله المريض تقديم الاسعافات الأولية له على وجه السرعة لإنقاذ حياته رغم الصعوبات التي يعاني منها الاطباء لمعرفة المادة التي تناولها لإنهاء حياته وخاصة عندما يسعف المريض إلى المشفى دون أحد من عائلته. وقال إن المواساة يملك طاقماً طبياً كاملاً لمواجهة الحالات الطارئة, وأشار الدكتور حبش أنه يعاني من مشكلة الخادمات الإثيوبيات اللواتي يقدمن على الانتحار ويؤتى بهن إلى المشفى دون مرافق يتركن دون السؤال عنهن ناهيك عن صعوبة التعامل معهن بسبب اللغة التي يتحدثنها. ونوه الدكتور حبش إلى وجود قسم للعناية النفسية بالمرضى يقدم الاستشارات النفسية لتقييم حالة المريض وإخضاعه للعلاج في حال كان ذلك ضرورياً. المنتحر مريض نفسي.. عن تعريف الانتحار وأسبابه وكيفية علاجه قال الدكتور خالد العمار من قسم الارشاد النفسي في كلية التربية جامعة دمشق: إن الانتحار هو التصرف المتعمد من قبل شخص ما لإنهاء حياته. أما عن أسباب الانتحار فقد أجمعت الدراسات على وجود أسباب كثيرة ومتنوعة للانتحار تختلف باختلاف الأفراد واختلاف البيئة الاجتماعية والظروف التي يعيش فيها الفرد وأهم هذه الأسباب هي: 1- أسباب ظرفية: تتعلق بالأحداث المحيطة بالفرد كالفشل الدراسي والعاطفي أو قصور الأهل المادي. 2- أسباب اجتماعية: كالتفكك العائلي وانعدام الأمن في الأسرة وادمان أحد الوالدين أو كليهما على الكحول والمخدرات أو موت الوالدين أو أحدهما أو بسبب الشللية السيئة (رفاق السوء) أو ادمان الشخص نفسه على تعاطي الكحول والمخدرات التي تؤدي إلى الاكتئاب والانطوائية. 3- أسباب نفسية كالمزاجية والكآبة وعدم الرضى المستمر عن كل شيء وكذلك الانفعالية المفرطة والأنانية الزائدة والخجل المفرط والشعور الدائم بالذنب, وتعد الأسباب النفسية من أهم الأسباب التي تدفع بصاحبها إلى الانتحار ومن هنا يعتبر المقدم على الانتحار في أغلب الأحيان مريضاً نفسياً. خطوات تقديم المساعدة النفسية للمقدم على الانتحار.. وعن دور المعالج النفسي في مساعدة المقدم على الانتحار الذي يعتبر مريضاً نفسياً أضاف الدكتور العمار أنه يجب التعامل مع الإنسان الذي تنتابه (أزمة انتحارية) وفقاً للخطوات التالية: - الخطوة الأولى: كسب ثقة المتعالج وإشعاره بأنه محل اهتمام المعالج النفسي. - الخطوة الثانية: أن نكون حساسين إزاء جدية الافكار والعواطف التي يبديها هذا المضطرب. - الخطوة الثالثة: على المعالج أن يقرر ويجزم بدرجة قوة وشدة الاضطراب الانفعالي للمريض. - الخطوة الرابعة: متابعة المضطرب ومراقبته بعد زوال الأزمة. - الخطوة الخامسة: على المعالج استشارة آراء عدد من الاختصاصيين من أجل العون والاستئناس بآرائهم للتأكد من تشخيص المتعالج. - الخطوة السادسة: أن لا يبدي المعالج أي تقريع أو ذنب لمظاهر السلوك الانتحاري الذي يبديه المريض والاتصال به بشكل دوري واشعاره أنه ما زال مركز الاهتمام. دور الأسرة وعن دور الأسرة أوضح الدكتور خالد العمار: إن الأسرة تلعب دوراً حيوياً في نشوء محاولة الانتحار لذلك يتوجب على المعالج النفسي البحث في الحالة الأسرية للشخص المضطرب لما للأسرة من دور ايجابي للتصدي والوقاية من الانتحار, ويجب على الأسرة التعامل بإيجابية وانفتاح كامل مع المعالج النفسي للوصول إلى تشخيص سليم للمضطرب وبالتالي تقديم المساعدة بأسرع وقت ممكن قبل التفكير بقرار إنهاء حياته. الانتحار يقتل الإيمان.. وعن رأي الدين في الإقدام على الانتحار وقتل النفس قال الشيخ عبد المنعم الشالاتي: إن المنتحر قبيل أن يقدم على قتل نفسه يكون قد أقدم على قتل إيمانه لأنه تعدى على صفة من صفات الألوهية.. قال الله تعالى (وإنه هو أمات وأحيا) وأضاف الشالاتي أن الاسلام ذهب إلى أبعد من هذا حين نهى الإنسان عن تمني الموت أو طلبه والدعاء به فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: »لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه, إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً). كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: »من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً, ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً, ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً). وقد عالج الإسلام هذه القضية من جذورها حين بين للناس حقيقة الحياة والموت وفق المفاهيم التالية: 1- الله تعالى هو المالك الوحيد للنفس البشرية وهو سبحانه بيده الحياة والموت ولا يحق لأحد أن يتعدى على حياته أو حياة غيره. 2- إن حياة الإنسان في الدنيا حياة الاختبار والامتحان والعمل, وحياته في الآخرة حياة الجزاء والثمرة فكل عمل في الحياة الدنيا يلقى جزاءه في الحياة الآخرة. 3- الإيمان يقوي العزيمة ويطمئن النفس ويرفع المعنويات. ومع هذا كله فإن الإسلام لا يحكم على قاتل نفسه بالكفر بل هو مؤمن يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ويترك أمره إلى الله تعالى. |
|