|
ثقافة لو كنتَ تبغي خيرهُ لبذلتَ من دمكَ الثمنْ هذا ما كان يردده الباحث الشهيد «خالد الأسعد» أحد رموز الحضارة السورية التي داهمتها ذات غدرٍ, كائناتٌ لا تنتمي في بشاعتها إلا لأشدِّ الحيوانات افتراشاً ووحشية. هذا ما كان يرددِّه الشهيد الذي استحقَّ قول الكاتب الفرنسي «روفائيل مورايا»: «الحكمة في تدمر ثلاثة. تدمر وزنوبيا وخالد الأسعد»..
نعم, كثيراً ما كان «الأسعد» يردِّد أبيات الشاعر «ابراهيم طوقان» وعلى مدى خمسين عاماً قضاها في خدمة الآثار السورية, رافضاً مغادرة المكان الذي ولدَ فيه وترعرعَ على عبق ماضيه, وخصوصاً بعد أن داهمته وحوش الشرِّ والبربرية.. قطعان الجهل والضلالِ والحرام التي ردَّ على من دعاه للهروب من براثنِ إجرامها, بأبياتٍ من قصيدةٍ يقول فيها الشاعر القروي «سليم رشيد الخوري»: قالوا أتعشقهُ وهذي حاله؟! ياحبذا وطني على علاتهِ العيشُ حلوٌ في سبيلِ رُقيِّهِ والموتُ أحلى في سبيلِ حياتهِ ردَّد «خالد الأسعد» عالم الآثار الذي كان مديراً لآثار تدمر هذه الأبيات, فانصبّ شرّ الرعاعِ عليه. الرعاعُ ممن حوَّلوه وببشاعة ما اقترفوه به بعد أن ذبحوه. حوَّلوه إلى أهم أعمدة الحكمة في مدينته. تدمر التي باتَ نصبَ كبريائها وعالميته.. إنه الراسخ في أرضه, وفي الدفاع عن حقّه وعرضه. الناطقُ بكلِّ ما جعل العالم يندهشُ عجزاً أمام أسرارِ سوريته.. الصامتُ رفضاً للبوح بما سعى قتلتهُ لاستجرارهِ إلى نطقه, ومن أجلِ هتكِ السرِّ المدفون في عمقهِ, والعمق لغته وأبجديته. الأبجدية التي عرَّف العالم بمفرداتِ أمجادها, والتي دونها حباً ترجمة كل من زارَ تدمرهُ فعشقها ونقلَ هذا العشق إلى عالمه الذي أُخذَ بسحرها وجمالها.. بروعةِ حكاية كل شارعٍ أو تمثالٍ لزنوبيا- ملكتها.. بحرفيةِ اليد التي أبدعت مدافنها وكل عمود من أعمدتها.. حكايا, كم سردها, وكم زاد من رونقها, وإلى أن باتت راسخة في فكرهِ, رسوخ كل الآثار التي اكتشفها فعانقها.. الحكايا, التي تحكي عن قصصِ عشق لمدينةٍ, من شدّة وفائهُ لها كرَّمها رغم خيانة بعضها.. زينها بقامته إلى أن باتَ من أهم وأشهر أعمدتها, بل آثارها.. الآثار التي ما أكثر ما انبهر بها وانحنى إجلالاً لمكانتها.. معجزتها. ما أكثر ما انحنى إجلالاً, علماء ومنقبو عن الآثار ومن شتى الدول الصديقة أو الطامعة والعدوانية.. أدباء.. شعراء.. فنانين.. باحثين وسواهم ممن زارها فنطق بما نطق به الكاتب الفرنسي «موراتا» الذي كتب بعد أن أدهشته و»الأسعد» عالم سرّها وآثارها: «كان عمل «خالد الأسعد» في الترميم والتنقيب شيئاً عظيماً في عروس الصحراء تدمر. شاهدتهُ يعمل وينحت ويدرس بصمت, وكنت أشاهد وراء نظارتيه عينين نفاذتين, وهو مخلص لعمله حتى النهاية.. لقد جعل من تدمر كتاباً مقروءاً بكلِّ اللغات.. كان معجباً ببلده, فقد أتقن اللغة التدمرية- الآرامية.. قرأ نصوصها بطلاقة, وكشف أسرارها وأسرار الأُسر التدمرية التي أقامت مجد المدينة وحضارتها». أخيراً أقول أنا, ويقول كل سوري شريف شرف «الأسعد» شهيد عشقه لوطنه: «يالصوص الحياة والحضارات. يا أعداء الفكر والإبداع والثقافات.. يا اللامنتمين إلا للوحوش التي تفوح من براثنها وأنيابها روائح الدماء السورية.. ألا لعنة الإنسان والدين والحضارة والعقل والحق.. لعنة لدم الشهيد, عليكم وعلى كلِّ من جنّدكم وموّلكم وأرسلكم لنهشِ جسد وأرض ومجد, وطننا.. إنساننا.. روحنا.. روح حضارتنا الأبدية.. |
|