|
دراسات هل من مصلحة العراق والإقليم أن تنسحب أميركا بسرعة تاركة وراءها أزمة متفجرة على شاكلة حرب أهلية ضروس بين أطياف الشعب العراقي وتكويناته تفرض تدخلات إقليمية وتؤدي إلى توسيع دائرة الخطر بحيث تشتعل فتنة قاتلة تقصم ظهر الأمة وتعيدها عشرات السنين إلى الوراء,تأكل الأخضر واليابس وتستنزف الطاقات البشرية والمادية والاقتصادية,فتقعد المنطقة وأممها عن التطور مئات السنين بينما يتفرغ العالم بشماله وأممه المتحضرة للتسابق على الموارد والعلوم والهيمنة الدولية,فتكون آخر صفحة في كتاب تاريخ وحاضر ومستقبل المنطقة العربية وأمم الإقليم.الانسحاب الأميركي من العراق أمر بات راهناً,ويقع عليه إجماع الخبراء والمحليين والوقائع المتقاطرة من العراق,ومن البنتاغون والأجهزة الأميركية التي قطعت كل شك باليقين وكشفت عن عجز أميركا في إدارة احتلالها للعراق والتثبت به,وعدم القدرة على تحقيق أهداف الغزو الجيواستراتيجية والاقتصادية. أن تهرول أميركا من العراق,وأن تخرج مهزومة منكسرة أمام العالم سيعني ذلك بلا أدنى شك تحولات عاصفة ليس أقلها إعادة هيكلة السيطرة الأميركية على المنطقة وربما على العالم,وسيؤدي انسحاب هرولة وهزيمة إلى تغييرات درامية في صورة المنطقة ونظمها ومجتمعاتها وجغرافيتها,كما سيؤدي إلى ولادة تحولات عالمية متسارعة من شأن نتائجها أن تغير كثيراً مما عرف أو مما هو قائم اليوم لتفتح العلاقات الدولية والنظام العالمي على حالة مختلفة جوهرياً عما كان في العقدين الأخيرين. أميركا ليست دولة صغيرة,ولا إدارتها مجموعات من محبي الخير للإنسانية ولا هم رواد للتحضير والتطوير,وبناء الأمم والديمقراطيات,وتوزيع الخيرات على شعوب الأرض وتخصيص العرب والمسلمين. أميركا الدولة الإمبراطورية التي لم يسبق أن شهدت البشرية مثيلاً لقواتها العسكرية والتقنية,ولقدراتها من غير الممكن أن تخرج من العراق مهزومة رافعة يديها وملقية أسلحتها (هذا ما يجمع عليه العقل العربي العادي وما يقوله محبو أميركا ونموذجها) لذلك لا بد أن يتفتق عقل الإمبراطورية وصقورها عن مخرج,عن جهد استراتيجي من طابع مختلف,ولا بد للبراغماتية الأميركية من أن تبتدع آليات وطرقاً لتغيير الوسائل بقصد تحقيق ذات الأهداف أو بعضها بطرق جديدة غير معروفة,هذا قول صحيح إلى حد كبير,يختلف عن قول آخر جرت عملية ترويجه بأن أميركا لا يمكن أن تهزم,وبأن أميركا جاءت إلى العراق كي لا تخرج منه,وبأن الخروج الأميركي المستعجل من العراق سيشكل كارثة على العراق والإقليم,وبالتالي فالمطلوب معاونة أميركا لتبقى طويلاً إلى أن تنتظم آليات الأداء بما يمنع وقوع فراغ وأزمة وطنية في العراق تؤدي إلى حرب طاحنة أهلية تشع آثارها التدميرية على المحيط المتوتر والمحفز لانفجارات وتصادمات. القول الصحيح إذن,أن أميركا في طريقها للهزيمة شاءت أو أبت,فالهزيمة ليست خياراً بل هي اضطرار وبأن المقاومة في طريقها لفرض نصر جديد يتكامل مع نصر الجنوب اللبناني 2000 ونصر غزة 2005 لتتشكل حلقة واسمة حاكمة في المستقبل الإنساني تسطر الصفحات الأولى في تاريخ مستقبل المنطقة وتفيد بأن المقاومات والشعوب تفرض دورها كعنصر أساس محرك للتطورات. والقول الصحيح أيضاً,أن هزيمة أميركا في العراق لن تكون نهاية المطاف,ولا هي بالضرورة طلقة الرحمة على الامبراطورية الأميركية,إنما هي سياق تاريخي تفرض نفسها كمحطة كحدث نوعي يقدم لما بعده من تحولات,وعليه فأميركا المهزومة في العراق لن ترمي أسلحتها جميعاً,ولا استنفدت كل عناصر قوتها وجبروتها,والهزيمة في العراق لن تنهي عناصر قوة أميركا وقدراتها المهولة,إنما تثلمها,وتعطلها في سياق مرحلة ومنطقة بعينها,فلأميركا قدرات,وإمكانات,ومخططات,ولديها قدرة ابتداع وسائل وخطط إضافية جديدة في محاولة لتمرير ذات المصالح والأهداف,لذلك يكون الصحيح جداً,الافتراض بأن أميركا تعقد تحالفاً مع أوروبا ذات الطابع الاستعماري بقيادة النخب الطامحة لعصر امبراطوري جديد,وتعزز العلاقات وتقويها مع قوى ونظم متضررة من هزيمة المشروع الامبراطوري الأميركي الأوروبي,وتسعى لاستعادة علاقاتها التي كانت مع بعض الجهات الموصوفة بالتطرف والأصولية,وتشد من عزيمة القوى التي جاءت مع قوات الاحتلال لإدارة العراق المحتل,بمعنى تسعى واشنطن لتجميع المتضررين وتوحيد جهدهم ووضع سيناريوهات ومخططات لإفشال النصر العراقي,وتحويله إلى أزمة مفتوحة بقصد حماية المصالح الأميركية والأوروبية وأدواتها في المنطقة وإدامتها ما أمكن. والحال فأميركا وحلفاؤها يستعجلون مخططاً جهنمياً جديداً,قاتلاً في حال نجحوا في إنفاذه,يقوم على بذر بذور فتنة طائفية إثنية,في العراق,بحيث يتحول العراق ما بعد الهزيمة الأميركية إلى عبوة ناسفة تنسف واقع ومستقبل الأمة وشعوب المنطقة وعلاقاتها المرجوة,ويمتد الشريط التفجيري إلى صاعق يجري تركيزه في لبنان,بحيث تشتعل نار فتنة مدمرة. الحروب الأهلية,والفتنة بين أطياف الأمة وبين أمم المنطقة هو المخطط البديل للعجز والهزيمة الأميركية في العراق والمنطقة,فهل تنجح أميركا وتحالفاتها في جر المنطقة إلى حروب طائفية ومذهبية تبدأ ولا تنتهي إلا بتفريغ المنطقة من قدراتها وثرواتها كي يتسنى للأميركي والأوروبي النفاذ بمصالحهم وإدامتها وإعاقة نهوض المنطقة وأممها. هذا هو التحدي الجديد الذي يقدم التحديات والأوليات وهذا هو السؤال المركزي المطروح على بساط البحث عند المقاومة العراقية والمقاومات العربية,وعند العرب والإيرانيين والأتراك إلى شعوب وأمم آسيا وأفريقيا,وواجب منع وقوع الفتنة والحروب الأهلية مسؤولية وطنية وقومية واجتماعية وإنسانية يشترك في إنجازها وتحقيقها الجميع كل بحسب موقعه وقدراته,علماً أن المعطيات الموضوعية الخاصة بالتجربة العراقية وبيئتها الإقليمية ترجح توفر إمكانية إسقاط مخطط الفتنة والحرب الأهلية كما وفرت أسباب وشروط إسقاط الاحتلال ومنعه من استخدام العراق منصة لإعادة هيكلة المنطقة والسيطرة عليها وعلى ثرواتها ومقدراتها ومستقبلها,فإذا كان الشعب العراقي وقواه الحية مبتلياً بهمة قتال وطرد المحتل,فشعوب المنطقة وإدارتها ونخبها معنية بأن تساعد المقاومة والشعب العراقي على التنبيه للمخاطر والتحصين في وجهها. البيئة العراقية تسمح بلجم الفتنة ووأدها في مهدها: من نافل القول رداً على من ينظرون للعصر الأميركي,ويهولون بقدرات أميركا,الإشارة إلى أن التجربة المعاشة راهناً وتجارب التاريخ تفيد بحقيقة أن ليس كل ما تخطط له أميركا يسير على هواها وأن الشعوب والأمم لها إرادات إذا ما أتقنت وضعها موضع التنفيذ يمكن لها أن تسقط المشاريع الأميركية وأن تعيقها وتمنعها وهذه تجربة لبنان وفلسطين والعراق شواهد قاطعة. ففي العراق دولة مركزية قوية كانت منذ كانت الحياة البشرية على هذه الأرض لأسباب تاريخية وجغرافية ومعرفية كأول دولة مركزية قامت في بلاد الرافدين بفعل الحاجة إلى الانتظام البشري وتوزيع الإفادة من المياه واتقاء شرورها وشرور الطبيعة,واستمرت حتى كان الاحتلال قبل سنتين ونيف وحاول حل الدولة,وتدميرها,فحصد النتائج السلبية الجارية. في العراق وطنية وبنية ثقافية واجتماعية ذات طابع وطني وقومي منذ عقود طويلة, شكلت الأساس لإطلاق أول ثورة تحرر وطني في بداية القرن الماضي في مواجهة الانتداب البريطاني حيث لعبت الحوزات الدينية العلمية والعشائر دوراً بارزاً فيها. في العراق قوى سياسية عريقة, وعشائر قومية الطابع والبنية, ووعي وطني قومي منذ زمن طويل ولم تزل تلك الثقافة والقوى 60% من أعضاء وقيادة حزب البعث من مناطق الجنوب, بعكس ما يقال, وأكثر من 3000 كادر بعثي قد اغتيل في منطقة الجنوب ناهيك عن وزن وحضور القوى الوطنية والقومية الأخرى, وقد لعبت وتلعب دوراً رائداً في إلحاق الهزيمة بالأميركيين, وقد سارعت لتشكيل آليات وهيكليات وتحالفات وطنية عريضة تعكس التكوينات الثقافية والإيمانية العراقية منذ الساعة الأولى للاحتلال (المؤتمر التأسيسي لرفض الاحتلال وغيرها من هيئات العشائر والمؤتمرات الوطنية والقومية العراقية) يعزز هذه البنية الثقافية والاجتماعية وجود عشائر عراقية مترامية الأطراف, وكبيرة العدد ينطوي تحت لوائها عراقيون من شتى المناطق والطوائف والاثنيات, تتشكل كحواضن لمنع فتن طائفية ومذهبية واثنية. تبدو القوى والمجاميع التي جاءت مع الاحتلال, ورافقته وتفاهمت معه أكثر الجهات استعجالاً لغرس بذور الفتن من خلال الأعمال العسكرية الإرهابية التي تمارسها وتحض على ممارستها, وتستهدف إثارة الفتن إن من خلال تقرير دستور وقانون إدارة للدولة مؤقت تحت عناوين وبتقسيمات طائفية واثنية,أو من خلال التعبئة المناطقية والطائفية, أو من خلال الدعوات والعمل لإقامة دولة لا مركزية عراقية أساسها وبنيتها كونفدراليات مناطق وطوائف ومذاهب غير أن تلك الجهود والأعمال بذاتها تمثل دليلاً إضافياً على هزيمة المشروع الأميركي وأدواته, فمجرد أن تسعى قوى جاءت مع الاحتلال وكانت تنشد وتبرر عمالتها بالقول إنها تستثمر فرصة فرض هيمنتها على الدولة العراقية لاستعادة حقوق كانت غائبة بحسب ذرائعها وتعود لتدعو للتقوقع والانحسار إلى هذه المنطقة أو تلك بذريعة الفيدرالية تمثل بذاتها دليلاً لا يدحض على الفشل والخوف من الهزيمة الأميركية ونتائجها على مصالح هذه القوى بعينها. ثم والبيئة الإقليمية المحيطة بالعراق,لا يمكن أن تكون في ساعة من نهار ساعية أو حامية أو مستفيدة من مشروع فتنة في العراق,أو لمشاريع تفتيت وتقسيم وإقامة دويلات طائفية ومذهبية واثنية بكون ذلك يترك آثاراً تدميرية على البيئة الإقليمية ودولها وتماسكها بفعل العدوى العراقية, فلا تبدو إيران أو سورية أو تركيا وإلى حد كبير السعودية شعوباً ودولاً ترغب أو تقبل باشتعال فتنة في العراق بين أطيافه لأن في ذلك تهلكة للجميع وتأزيم وتمرير لمشروع استعماري أميركي أوروبي أعلن استهدافه لتلك الدول وشعوبها من الساعة الأولى لسقوط بغداد. أميركا وأدواتها وتحالفاتها المهزومة في العراق, تسعى لخلق شروط وظروف فتنة واحتراب أهلي عراقي بتسميات مختلفة, غير أن البيئة العراقية ذاتها, والبيئة الإقليمية المحيطة, وطبيعة المرحلة التي دنت وتشهد على عجز وهزيمة أميركا تمثل كلها عناصر تفيد لإمكانية أن ينجح العراقيون والقوى المحيطة في وأد الفتنة قبل أن تستفحل, تماماً كما سجل لهم نجاح في إسقاط الاحتلال الأميركي برغم زخمه, وبرغم إمكانيات أميركا الهائلة والقوة العاتية غير المسبوقة في تاريخ الإنسانية. أميركا المهزومة تحاول تغطية هزيمتها بافتعال فتنة في العراق لحرق المنطقة وأطلقت استراتيجية الفوضى البناءة في استهداف لدول المنطقة واستقرارها, واستنزاف الأمة وتدميرها, غير أن الوقائع ذاتها والمرحلة بطبيعتها وعناصرها, تفتح أبواباً لحقبة جديدة تبدو مؤشراتها كإرهاصات تفيد بإمكانية أن يتحول العراق المحرر إلى بوتقة لتفاعل وتناغم وابتداع حلول لتقاطع مصالح الأمم المتجاورة التي طال فراقها تنسجم مع سمات العصر الإنساني الجديد في القرن الواحد والعشرين تشير إلى حقيقة قيام وحدات وتوافقات مع فرق قومية كما هو نموذج الاتحاد الأوروبي, ومنظمة شنغهاي والتطورات الجارية بسرعة في أميركا اللاتينية والجنوبية وحوض الكاريبي. العمل الجاد المطلوب من النخب والمنظرين والكتاب يتركز الآن في البحث في الجواب على سؤال ماذا بعد هزيمة أميركا في العراق, الفتنة والحروب التآكلية? أم تحويل العراق إلى حاضنة وساحة تفاهم وتفاعل بين أطياف الأمة ومع الأمم المحيطة تنتج ظاهرة عربية وإقليمية طال انتظارها. في المقال القادم سنطرح أفكاراً تفيد بإمكانية أن يكون العراق بوتقة للتفاعل والتفاهم بين الأمم المتجاورة, ونحاول استطلاع مستقبل العلاقات العربية-الإيرانية-التركية-الكردية. كاتب لبناني |
|