|
شؤون سياسية هي عالم مضطرب مسكون بعوامل التوجس والإحباط التي تكاد تسد أفق المستقبل. الأمر الذي يشكك كثيراً في احتمال وقوفه على قدميه في الأجل المنظور، وهو ما لن يخيب آمال أهله المتعبين فحسب، ولكن الشواهد تدل أيضاً على أنه سيخيب حتى أمل الذين راهنوا عليه كورقة انتخابية. منذ أن أسقط نظام طالبان في خريف 2001 والناس يسمعون عن الإعمار ولا يرونه. في اجتماع طوكيو (كانون الأول 2001) وعدت الدول المانحة بتوفير 5،2 مليارات دولار لإعادة إعمار أفغانستان خلال الفترة من 2002 وحتى 2006، وهو مبلغ متواضع إذا ما قورن بالمساعدات الدولية التي تقررت لحالات أخرى كان التخريب فيها أقل، فقد كان نصيب الفرد فيما قدم من مساعدات إلى رواندا مثلاً 193 دولاراً، وفي البوسنة كان نصيب الفرد 326 دولاراً، وفي كوسوفو 288 دولاراً، وفي تيمور الشرقية 192 دولاراً، أما في أفغانستان فلم يتجاوز نصيب الفرد 42 دولاراً فقط. وحتى ندرك مدى تفاهة المبلغ الذي خصص لإعادة الإعمار في أفغانستان فلا مفر من التذكير بأن تكاليف الإعمار في مؤتمر بون (الذي عقد في بداية 2002) قدر تكلفة العملية بمبلغ 23 ملياراً خلال خمس سنوات ولكن الرقم المعلن عنه 15 ملياراً. أما مصادر البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي فقد قدرت المبلغ المطلوب بحوالي 10،2 مليارات من الدولارات خلال خمس سنوات، ولكن مؤتمر طوكيو لم يستطع أن يقدم أكثر من المبلغ السابق الذكر 5،2 مليارات. خلاصة كل ذلك أن مسيرة الإعمار تعثرت، ولم يتحقق فيها شيء يذكر، الأمر الذي كان له صداه القوي على صعيدي الاقتصاد والأمن. بدا الأفيون هو الحل. إذ وجد الناس في زراعته مصدراً يحل لهم مشكلاتهم الاقتصادية، ويؤمن لهم احتياجاتهم دون كبير عناء وقد أصبح ذلك خبراً عادياً يسمع على كل لسان في العاصمة، بل عاد أمراً مقبولاً ومسكوتاً عنه من جانب الحكومة ومختلف المنظمات الدولية العاملة في أفغانستان. وهو ما كان تهمة لوحق بها نظام طالبان وضغط عليه، حتى تم في آخر عهدهم تحريم زراعة الأفيون وتجريم زراعته فضلاً عن تعاطيه. وقد اتسع نطاق زراعة الأفيون حتى شملت مناطق لم تعرفها في تاريخها، وهو ما حدث في ولايتي فارياب وبادغيس في الشمال والغرب، كما أنها عممت في ولاية بدخشان الشمالية، وكادت تجارة المخدرات تكتسب شرعية وتتحول إلى ركيزة للنشاط الاقتصادي في غيبة الموارد الأخرى. ويلفت النظر في هذا الصدد أن بعض الحركات الدولية مازالت تدعو إلى وقف زراعة الأفيون، وتقدم للسكان تعويضات إذا هم اقتلعوا أشجاره وزرعوا محاصيل أخرى. وهو ما كان عنصراً مشجعاً للبعض من أجل اللجوء على زراعة المخدرات، لكي يحصلوا على التعويض ويتوقفوا لبعض الوقت، ثم يعودوا لزراعته مرة أخرى. واقع الأمر أن مشكلة زراعة الأفيون استفحلت بصورة مؤرقة، هذا ما أعلنته الأمم المتحدة في تقريرها السنوي الذي صدر الشهر الماضي، من أن أفغانستان هي أكبر مصدر للأفيون على مستوى العالم. وقال مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة: إن 2،7 بالمئة من الأفغان البالغين يتعاطون الأفيون بانتظام، لكن الأرقام الاجمالية هي على الأرجح أعلى من ذلك نظراً لمعدلات الإدمان التي لا يتم الإبلاغ عنها بين النساء والأطفال. وأضاف التقرير: «خلال الأعوام الخمسة الماضية في أفغانستان ارتفع عدد المتعاطين الدائمين للأفيون بنسبة 53 بالمئة من 150 ألف إلى 230 ألف شخص. وأشار التقرير إلى أن نصف إنتاج أفغانستان من الأفيون، الذي يشتق منه الهيرويين يزرع في إقليم هلمند جنوب البلاد. وهو الإقليم الذي يشهد وجوداً كثيفاً لقوات الاحتلال الأجنبية. وحين لم يعد للحكومة دور رئيسي في عملية الإعمار، ولا تأثير في الاقتصاد، فإن ذلك آرض من قبضتها وقلص من نفوذها وهيبتها، فانفلت عيار الأمن في بلد لايزال مدججاً بالسلاح. وكان لذلك الانفلات تجلياته وخصوصاً في خارج العاصمة. إذ كثرت حوادث السطو والسرقة وقطع الطرق، وأهم من ذلك أن حكام الولايات صاروا أكثر استقلالاً، وأحياناً أكثر استعداداً لتحدي الحكومة والتمرد عليها. أما الأخطر فهو أن تلك الأجواء وفرت مناخاً مواتياً لتنشيط وتأمين منسوبي حركة طالبان، بعد أن أصبحت الحركة نقطة جذب للساخطين على الحكومة واليائسين منها، والغاضبين من سيطرة الطاجيك على مقدرات البلاد، وتراجع حظوظ البشتون الذين حكموا البلاد منذ تأسيس الدولة قبل 250 عاماً. تجلى ذلك في توسيع نطاق الاشتباك بين عناصر طالبان وبين ممثلي الحكومة والوحدات العسكرية الأميركية، وخصوصاً في الولايات الجنوبية المتاخمة للحدود مع باكستان بسبب هشاشة وضع الحكومة، فإن إحدى أولوياتها الراهنة هي كيف تبسط سلطانها على الأقاليم، بحيث تمد نفوذها من كابول العاصمة إلى بقية أنحاء أفغانستان. من ناحية تحاول الحكومة إقامة جيش وطني وشرطة، وهي العملية الجارية تحت اشراف فرنسي وأميركي. لكن الأهم من ذلك أن الحكومة تريد أن تتخلص من مشكلة استقلال حكام الإقاليم وتفردهم بإدارتها وتحصيل مواردها، بعيداً عن سلطان الحكومة. وهم الذين يستمدون قوتهم من قبائلهم أو تاريخهم الجهادي. |
|