|
شؤون سياسية بلغ تلاشي هذه الأوهام القاع الأخير يوم 24/10/2009، بإعلان «البيت الأبيض» أن الرئيس قرر إلغاء المؤتمر الصحفي المزمع عقده لبلورة مبادرته العتيدة في شأن تسوية الصراع العربي - الصهيوني. والإلغاء لا يعني التأجيل، بل نفض اليد من «مبادرة» غير قابلة للتداول. وليست زيارة جورج ميتشل الأخيرة كما زيارة الوزيرة كلينتون في المنطقة إلا لترتيب المرحلة الجديدة من انطلاقة التماهي الأميركي - الإسرائيلي الجديدة. وهنا أبرز الأوهام المتبددة والواجبة التدقيق الذي حدث خلال الأشهر التالية على انتخاب أوباما رئيساً، أن انسياقاً عربياً كسيل عرم، انطلق وراء ايماءات يراهن أسراها على إمكان أن يخفض هذا الرئيس الجديد معدل التماهي الأمريكي مع العدوانية الإسرائيلية. وقد ارتكز هذا الانسياق الذي أطلقته نخب عربية نافذة في منابر الرأي والإعلام، على «معطيات» منها أن أوباما أول رئيس أسود، ومنها أصله الإفريقي والإسلامي.. إلخ. وهذه «معطيات» لم تجد موقعاً ضمن محددات سياسة أمريكا الخارجية، لسبب بسيط هو أنها سابقة على السياسة وتعكس الذهنية العشائرية للنخب التي روجتها. وهذه الذهنية تعزو إلى الشخص دوراً أعظم من حجمه ومن المكابرة تجاهل حضور هذه الذهنية في المستوى السياسي العربي العام، وحتى لدى بعض صناع القرار فيه. وقد مورس الشطط في أداء هذه الذهنية العشائرية مرات، يرتقي بعضها إلى مستوى الطرفة، فقد عبر ملك عربي راحل عن تبرّمه من تعاقب الإدارات في «البيت الأبيض» في تعليقه عام 1980 على خروج كارتر ودخول رونالد ريغن بالقول» لا نكاد نتعرف على الرئيس الأميركي ونعقد صداقة معه حتى تذهب به انتخابات دورية.. والشآن نفسه ينطبق على ستمئة رئيس عربي راحل بخيبة جورج بوش الآب 1992 في تجديد ولايته، فخرج إلى شرفة قصره ليطلق الرصاص ابتهاجاً! وما هكذا تورد - ياسعد - الابل. ثاني أهم الأوهام الواجبة التدقيق بتقهقر الرئيس أوباما عن ايماءاته الخاصة بالرغبة في بلورة سلام شرق أوسطي، هو اسطوانة الضغط الصهيوني على إدارته. فهذه الاسطوانة عادت للدوران الآن بيد نخب عربية نافذة، كما في كل مرة تبرهن واشنطن فيها على العجز عن أخذ مسافة متساوية لممارسة دور راعي المفاوضات النزيه بين العرب و«إسرائيل». الوهم في تدوير اسطوانة الضغط الصهيوني مبني على المبالغة في تأثير اللوبيات اليهودية على صنع القرار في «البيت الأبيض»، ابتداء من الحديث المكرور عن أثر الدولار والصوت اليهودي الانتخابي في صناعة الرؤساء، وفي تجديد ولا يتهم، وصولاً إلى التهويل بأن الحركة الصهيونية حكومة مهيمنة على العالم بأسره وفيه الولايات المتحدة!! وعلى الرغم من عجز مروجي هذا الوهم عن الإحاطة بالأسس الناظمة لطبيعة العلاقة بين الإمبراطورية الأميركية وبين المشروع الصهيوني، فإنهم يمعنون في ترويج هذا الوهم، لا لسبب إلا لتسويغ مالا يمكن تسويغه وهو استقالتهم من المسؤولية القومية والأخلاقية عن وجوب جبه غائلة المشروع الصهيوني. الثابت أن وهم السيطرة الصهيونية على القرار الأميركي هو مجرد وهم مختلق من منظومة الحقائق الكامنة في اتساع الحضور الامبريالي العالمي الضاغط على القارات والمحيطات والناهب للخيرات المادية وللكفاءات والمتربص بالتنمية المتوازنة في جميع البلدان. في هذا الإطار فإن لإسرائيل المزروعة في وطننا العربي دوراً وظيفياً لا تتجاوزه هو تخديم هيمنة الامبراطورية الأمريكية، بالإكراه المسلح. وحين جاء أوباما إلى منبر جامعة القاهرة في 4 حزيران الماضي، ليقول إن السلام الشرق أوسطي مصلحة أمريكية، كان محمولاً على مراجعة نشطة في دوائر صنع القرار الأمريكي، تدرس مدى الجدوى في استراتيجية غطرسة القوة، ولاسيما بعد الزحام على جسر النعوش الطائرة من بغداد وكابول إلى واشنطن، وبشكل خاص بعد عجز إسرائيل نفسها عن أن تبرهن على أن العدوانية الوحشية يمكن أن تبلور سياسة ذات مغزى، بقرينة إخلاء قطاع غزة من المستعمرات 2005 وبقاء شاليط أسيراً منذ 2006. أما الوهم الأخطر الواجب التقصي فهو القعود العربي عن الفعل الايجابي في انتظار دور صنع السلام من قبل الولايات المتحدة بوصفه دوراً منسوجاً من ذهنية عشائرية. وما تجب ملاحظته هنا أن إحجام بعض العرب عن البناء على صمود غزة في وجه العدوان الإسرائيلي، ومواصلة مشاطرة إسرائيل حصار القطاع ونهج المقاومة، قد أعاق المراجعة الأمريكية لسياسة غطرسة القوة، وأشعر إسرائيل بانخفاض الكلفة السياسية للعدوان، ولاسيما بعد تواتر الإشارات إلى أن جهداً فلسطينياً يبذل لمنع تقرير غولدستون حتى بعد إقراره في مجلس حقوق الإنسان، من بلوغ عتبة التتابع الإجرائي في مجلس الأمن وما بعده. وما يجب استخلاصه أن متلازمة الجري في الملعب الأمريكي هي التي تنشئ الأوهام وهذه الأوهام تتجدد حتى بعد نفض أوباما يده من بلورة مبادرة لأن الارتهان للمشيئة الأمريكية مستمر وإن يكن وهماً. |
|