|
ملحق ثقافي
تمتاز هذه المرحلة بأنها أخضعت الشعر لمناخ الإيديولوجيا السياسية التي كانت سائدة في حينه، وأكدت الخطاب السياسي، وما يمكن أن يسمى بالخطاب الوطني، كنوع من إكمال مسيرة خطاب شعر الحداثة المعني بما يسمى «القضايا الكبيرة» ومنها قضايا الوطن، بطبيعة الحال. هذا الانسجام في خطاب المضمون رافقه انسجام في خطاب الشكل، فلم تظهر حالات خروج حقيقية ومعتبرة عن خطاب شعر الحداثة، الأمر الذي جعل من مرحلة السبعينيات مرحلة عمرية أكثر منها شعرية! وإن محاولات الشاعر منذر مصري الحثيثة في الجزء الثالث من «أنطولوجيا الشعر السوري» «احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008» في أن يعتبرها مرحلة شعرية شكلت «انعطافة» لم تجد نفعاًً.
لكن الإيجابي في «الشعر السبعيني» تمثل في ظهور بعض الشعراء الذين شكلوا مناخاً شعرياً مختلفاً كرياض الصالح الحسين، سليم بركات، عادل محمود، منذر مصري، إبراهيم الجرادي، وبندر عبد الحميد... من حيث أنهم كتبوا: من جهة قصيدة النثر «باستثناء إبراهيم الجرادي» ومن جهة أخرى التفتوا إلى اللغة وما تنطوي عليه من إمكانية في القول تحددها التراكيب اللغوية والعلاقات بين الكلمات والأشياء وليس مجرد الأفكار المسبقة من زاوية نظر أخرى «بمن فيهم الجرادي هذه المرة». لكن ثمة جملة من الأحداث وقعت لهؤلاء الشعراء سيكون لها أثرها في التأريخ الشعري من جهة، وفي سياق هذه المقالة من جهة أخرى، يمكن إيجازها على النحو التالي: رحل رياض الصالح الحسين مبكراً جداً، وترك مجموعة دواوين لم تزل في التداول إلى الآن، إذ أنه سليل قوي لمحمد الماغوط. وكتب سليم بركات شعراً يعتمد اللغة كقائل رئيس في القصيدة بوصفه سليلاً قوياً للنماذج المهمة في تراث العرب، الأمر الذي جعله خارجاً عن نسق قصيدة النثر المعنية باليومي والصغير والتفاصيل التي حاول تأكيدها بعض شعراء جيله الذين ذكرتهم قبل قليل. وتوقف كل من عادل محمود ومنذر مصري وبندر عبد الحميد عن النشر مدة طويلة. فقد كان آخر ما أصدره عادل محمود، قبل توقفه الطويل، هو ديوان «مسودات عن العالم» عام 1983، وآخر ما أصدره منذر مصري، قبل التوقف أيضاً، هو مجموعة مشتركة مع مرام مصري ومحمد سيدة بعنوان «أنذرتك بحمامة بيضاء» عام 1984 والأمر ذاته حدث لبندر عبد الحميد حيث أصدر عام 1990 «الضحك والكارثة» ولكن بعد توقف منذ «مغامرات الأصابع والعيون» 1981 . لم يعد في الساحة أحد إذاً. غادر عادل محمود البلد ليعمل في صحافة عربية مهاجرة. وانشغل بندر عبد الحميد بالسينما وقضاياها. وغادر إبراهيم الجرادي، أيضاً، البلد ليشتم، من اليمن السعيد، قصيدة النثر، ويتهمها بانعدام القول، والانشغال بقضايا صغيرة لا تهم العربي في شيء. فيما بقي منذر المصري يؤكد حضوره الشخصي كصديق للجميع، ويذكرهم بمغامراته الشعرية، وبضرورة أن يحفظوا مقاطع من قصائده القديمة، إذ لا جديد منشوراً لديه! استمر الأمر بحضور طاغ، إذاً، لشعراء الحداثة الرواد ومن لحقهم، حتى بدايات التسعينيات من القرن الفائت حيث ظهرت مجموعة من الشعراء الطامحين لحضور شعري متجاوز لمقولات الستينيات وللأشكال التي فرضوها، وبدؤوا بنشر نتاجهم في الفترة ذاتها. هؤلاء الشعراء أسسوا، فعلاً، لمرحلة شعرية جديدة، وقد أطلقت عليهم الصحافة تعبير «الشعراء الجدد». وكنت، شخصياً، قدمت كتاباً، وأكثر من دراسة ومقالة حول سمات هذه المرحلة، وما الذي جعلني أعتبرها مرحلة. ومنعاً للتكرار، لن أدخل في هذا الآن. وعلى اعتبار أن الأب الشعري لهؤلاء يتمثل في شاعر الحداثة، وعلى اعتبار أن طموح هؤلاء، أصلا، كان تجاوز منجز شاعر الحداثة، وعلى اعتبار أن حضوره الطاغي كان بمثابة الحجاب الذي يمنع رؤيتهم، أو يتفّهها، لاسيما في ظل وجود شعراء نجوم يمنع ضياؤهم رؤية غيرهم، أليس النور حجاباً وفق النفّري والتصوف؟ إذاً، كان أباً يجب أن يموت! وبوصفه قوياً جداً، وراسخ الحضور، ويحوز على شرعية ثقافية مؤكدة، فإنه كان صعباً على الشاعر الجديد الأعزل خلخلة حضوره ولو جزئياً. أمام هذا، كان لا بد للشاعر الجديد من حلفاء. وكان، إلى هذا، الشعراء السبعينيون يعانون المعاناة ذاتها من وطأة الحضور المهيمن لشاعر الحداثة – أبيهم الشعري أيضاً، لكنهم لم يكونوا يستطيعون فعل أي شيء، أي شيء، فقد كانوا بمثابة الموتى ثقافياً وشعرياً. ونتيجة الهم المشترك الذي يربط الشعراء الجدد بهؤلاء، فقد كان من الممكن أن يقيموا تحالفاً وثيقاً بينهم، خاصة أن أياً منهم لم يكن في موقع يؤهله لأبوة شعرية من أي نوع، فقد كان يمكن النظر إلى أي منهم على أنه الأخ الأكبر مثلاً! ولكن كيف يمكن إقامة تحالف مع الموتى؟ هكذا، كان على الشاعر الجديد أن يعيد إحياء الشاعر السبعيني على أنه الأخ الأكبر الذي يستحق المساعدة، إن لم يكن حباً به، أو بشعره القديم، فلأجل إقامة تحالف بمواجهة الإقصاء الذي كان يُمارس على الشاعر الجديد شديد الهشاشة من نافذة، ولأجل رفع التهمة التي كانت تُلصق به من أنه بلا أب من نافذة أخرى، ومن المعروف كم سيئة سمعة من لا أب له عربياً! وكم من الصفات المقذعة تنسب إليه. كان يمكن للشاعر الجديد، وقت الضرورة، أن يجاهر بأبوة شاعر سبعيني ولو كذباً. ولكن يجب على هذا الأب، بداهة، ألا يكون ميتاً إلى هذا الحد، يجب أن يكون موجوداً ثقافياً وشعرياً. وتأكد هذا الأمر للشاعر الجديد، وقرر: إن لم أستطع قتل الأب، فلأحي الأخ الأكبر. وتم الأمر. أصدر عادل محمود، وكان أن عاد إلى سورية، ديواناً بعنوان «حزن معصوم عن الخطأ» عام 2003 «آخر ديوان أصدره، كما ذكرت، كان عام 1983» وأصدر بندر عبد الحميد «حوار من طرف واحد» عام 2005 «منذ العام 1990» وأصدر منذر مصري ديوان «مزهرية على هيئة قبضة يد» عام 1997 «منذ العام 1984» وهكذا... وكان أن سبقت هذه الإصدارات حملة إعلامية، شفوية ومكتوبة، قام بها الشعراء الجدد، تعيد الأخوة الكبار إلى التواجد. وقد نجح الأمر أيما نجاح، فعندما أصدر عادل محمود ديوانه المذكور عام 2005 بعد اثنين وعشرين عاماً على آخر ديوان، بدا الأمر طبيعياً وكأنه لم ينقطع يوماً، وكذا الأمر بالنسبة للآخرين. مع هذا، يعزو بعضهم أسباب ظهور الشعراء السبعينيين في التسعينيات وما بعد إلى خلو المشهد الشعري الجديد من أسماء لامعة وقوية الحضور كالآباء الحداثيين. وبعضهم يعتبر أن تشجّعهم على النشر بعد تلك الانقطاعات المريبة يعود لعدم وجود أحصنة شعرية يمكن سرجها! أما وأن المرحلة الشعرية الجديدة هي مرحلة قصيدة النثر، فإن حضور إبراهيم الجرادي الشعري في التسعينيات كان ضئيلاً، رغم عدم توقفه عن الإصدار لفترات طويلة، وذلك، ربما، بسبب أنه يكتب قصيدة التفعيلة التي يعتبرها الكثيرون قديمة وتنتمي لجيل الآباء، عدا الموقف الضدي الذي يعلنه الجرادي، بمناسبة وبغير مناسبة، منها. في السياق ذاته، ولكن بمكان آخر، إن الصخب الإعلامي والثقافي الكبير الذي أثاره الشعراء الجدد خلال عقد التسعينيات كاملاً، قطف ثماره الشعراء الشباب اللاحقين، فإذا كان شعراء التسعينيات أصدروا ديوانهم الأول، على الأقل، على نفقتهم الخاصة، فإن الشعراء اللاحقين أصدروه، ليس على نفقة مؤسسات حكومية وخاصة فحسب، بل ضمن مسابقات وجوائز واهتمام عال بهم، الأمر الذي لم يتوفر، ولا مرة، لشعراء التسعينيات، شعراء الخيبة وما بعد الفشل الكوني! |
|